
استراتيجية الحوار الأميركي الخليجي بين النجاح والتحديات
الاستماع للمقال صوتياً
|
مقال الرأي
الدكتور عبيد الله برهاني – كاليفورنيا
تُعدّ استراتيجية الحوار أداة حيوية لحل النزاعات الإقليمية في العديد من مناطق العالم، بما في ذلك الشرق الأوسط وأفغانستان. في السنوات الأخيرة، شهدت السياسة الدولية تحولات كبيرة نحو اعتماد الحوار الشامل كوسيلة لحل الأزمات بدلاً من التدخلات العسكرية المباشرة. وقد تبنّت الولايات المتحدة، بالتعاون مع الدول الخليجية، هذا النهج لتحقيق الاستقرار الإقليمي، حيث تجمع بين الأطراف المتنازعة على منصات حوارية تهدف إلى الوصول إلى حلول دبلوماسية مستدامة. وقد انعكس ذلك على الملفات الإقليمية الحساسة، مثل الأزمة السورية، والنزاع في اليمن، والعلاقات المعقدة مع إيران، مما يُظهر تحولًا جوهريًا في سياسة التدخل الأمريكي.
على مدى العقدين الماضيين، تحولت الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط من التدخلات العسكرية المباشرة إلى التركيز على العقوبات والضغط الدبلوماسي، مع إدراك محدودية فعالية هذه الوسائل. أدى ذلك إلى تقليل التدخلات العسكرية وتعزيز الشراكات الإقليمية والدبلوماسية، خاصة في ظل التحديات من القوى الكبرى مثل الصين وروسيا. أصبحت الدول الخليجية لاعبًا محوريًا من خلال الوساطات الإقليمية، كما تجلّى في المصالحة السعودية-الإيرانية بوساطة صينية. أسفرت استراتيجية الحوار عن نتائج إيجابية في حل بعض القضايا الإقليمية، بما في ذلك عودة دمشق إلى جامعة الدول العربية وتعزيز التعاون الإقليمي بعد إسقاط نظام الأسد.
في اليمن، لعبت الولايات المتحدة إلى جانب الوساطات الخليجية دورًا رئيسيًا في تسهيل الحوار بين الحكومة اليمنية والحوثيين، مما أسهم في إطلاق مبادرات إنسانية لدعم السلام وتخفيف المعاناة. في السياق الخليجي-الإيراني، شهدت العلاقات تحولًا من التصعيد إلى التهدئة، حيث فتح الاتفاق السعودي-الإيراني الباب أمام تعاون أمني واقتصادي يعزز استقرار المنطقة. كما قامت بعض الدول الخليجية بدور بارز في تسوية النزاعات الداخلية في السودان وليبيا من خلال الوساطة والدبلوماسية. في ملف الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، كانت عمليات تبادل الأسرى والحوار المباشر مع حركة حماس في قطر رغم تصنيفها على لوائح الإرهاب مثالًا على فاعلية الحوار رغم التحديات. أخيرًا، كثّفت واشنطن جهودها مع طهران، داعيةً إلى حوار شامل حول القضايا، أبرزها الملف النووي الإيراني، مؤكدة التزامها بالحلول الدبلوماسية مع جميع الأطراف المعنية.
علاوة على ذلك، كثّفت واشنطن مؤخرًا جهودها مع طهران، داعيةً إلى حوار جاد وشامل حول مختلف القضايا، وعلى رأسها الملف النووي الإيراني، مؤكدةً في الوقت ذاته التزامها بمسار الحوار مع مختلف الأطراف الدولية والإقليمية، بما في ذلك الجهات المنخرطة في النزاعات، في إطار السعي إلى تحقيق حلول دبلوماسية مستدامة.
التحديات أمام استراتيجية الحوار:
رغم هذه النجاحات، تواجه استراتيجية الحوار تحديات معقدة تعيق الوصول إلى حلول نهائية. من أبرز هذه التحديات غياب الثقة بين الأطراف المتنازعة، مما يجعل بعض القوى تفضّل استخدام القوة أو التدخلات الخارجية على الحلول السلمية. كما أن التدخلات الخارجية من قوى كبرى، مثل روسيا والصين، وكذلك التدخلات الإقليمية من دول مثل إيران وتركيا، تعقّد مسارات الحل السياسي. علاوة على ذلك، تشكل العقبات الاقتصادية، مثل ضعف التنمية في دول كاليمن وسوريا، عائقًا أمام تحقيق تسويات مستدامة.
ورغم هذه التحديات، يبقى الحوار الأداة الأكثر فاعلية لتحقيق الاستقرار في المنطقة. يتطلب النجاح في هذه الاستراتيجية مزيدًا من التنسيق العربي المستقل، ويجب أن يكون هناك دعم اقتصادي لتسهيل الحلول السياسية، مع السعي إلى تقليص التدخلات الخارجية التي قد تفرغ الحوار من مضمونه. في ظل هذه الظروف، يظل الحوار خيارًا استراتيجيًا لا غنى عنه، ولكن نجاحه مرهون بالإرادة السياسية والقدرة على التغلب على التحديات الراهنة.
أما في أفغانستان، يُعدّ تعزيز الحوار السبيل الأوحد للخروج من حالة الجمود السياسي والاضطرابات الأمنية والاقتصادية التي تعصف بالبلاد. ورغم إخفاق المقاربات العسكرية في تحقيق الاستقرار، يبقى الأمل معقودًا على استراتيجية تقوم على حوار شامل. تمتلك الولايات المتحدة والدول الخليجية، بما لها من ثقل تاريخي ونفوذ إقليمي، القدرة على لعب دور محوري في فكّ حالة الجمود السياسي، سواء عبر وساطة مباشرة مع حكومة الأمر الواقع، التي ترفض وصاية دول الجوار، أو من خلال تشجيع حركة طالبان على الانخراط في مفاوضات جادة مع القوى السياسية والمدنية المؤمنة بالحوار والثوابت الوطنية والمصالح العليا، بعيدًا عن دوامة العنف التي أنهكت البلاد لعقود وخلفت دمارًا ومآسي لا تُحصى. كذلك، يمكن للحوار أن يمهّد الطريق نحو إعادة إدماج أفغانستان في المجتمع الدولي بعد سنوات من العزلة والحصار، اللذين أضرّا بها على جميع المستويات.
غير أن تنفيذ هذه الاستراتيجية يواجه عقبات جمّة، في مقدّمتها غياب التوافق الداخلي في أفغانستان، سواء على مستوى الرؤية والتخطيط أو في تحديد الإطار العام الذي يفضي إلى خارطة طريق واضحة. كما أن حركة طالبان لا تزال ترفض إلى حدّ كبير إشراك القوى الأخرى في عملية الحكم أو الحوار، رغم وجود أطراف سياسية لا تعارضها بالكامل، بل تؤمن بالحوار الوطني والإصلاحات الجذرية. يضاف إلى ذلك أن المخاوف الأمنية لدى دول مثل إيران وباكستان تعيق أي جهود للحوار لا تنسجم مع مصالحها الاستراتيجية. علاوة على ذلك، يعاني الاقتصاد الأفغاني من هشاشة شديدة، ما يجعل أي تسوية سياسية رهينة بدعم اقتصادي فعّال.
يمثل الحوار ركيزة أساسية في تسوية النزاعات، بوصفه وسيلة استراتيجية وضرورة وطنية لتحقيق الاستقرار والسلام المستدام. ويقتضي نجاحه التعامل بواقعية ومسؤولية مع التحديات الداخلية والخارجية، مع تعزيز آليات التعاون الإقليمي والدولي. ورغم العقبات، يظل الحوار الخيار الأمثل لإنهاء الأزمات، شريطة تبنّي مقاربات بنّاءة تقوم على التفاهم المتبادل، والاستعداد لتقديم تنازلات متوازنة، والابتعاد عن الحلول العسكرية التي غالبًا ما تؤدي إلى تفاقم الأزمات بدلًا من حلها. وفي ظل استمرار الوساطات الخليجية والدعم الدولي، يمكن للحوار أن يسهم في تعزيز الاستقرار الإقليمي، وتكثيف الجهود الإنسانية، وفتح قنوات تواصل فعّالة، مدعومة بإرادة سياسية وطنية تضع المصالح العليا في صدارة الأولويات.