
دور السعودية الاستراتيجي في أفغانستان: ضرورة تاريخية وفرصة دبلوماسية
الاستماع للمقال صوتياً
|
كالفورنيا – مقال الرأي
الدكتور عبيد الله برهاني
لطالما اضطلعت المملكة العربية السعودية بدور محوري في المشهد السياسي الإقليمي والدولي، لا سيما فيما يتعلق بأفغانستان. فمنذ حقبة الغزو السوفيتي، وقفت المملكة بثبات إلى جانب الشعب الأفغاني، مساندةً لقضيته وداعمةً للمجاهدين، بالتنسيق مع المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، حليفها الاستراتيجي والتاريخي. ومع بروز تحولات جيوسياسية جديدة، وترقّب اتفاق أمريكي روسي على أرض المملكة، تتعاظم الحاجة إلى مبادرة سعودية متجددة لتعزيز الاستقرار في المنطقة وأفغانستان. ولا يعكس هذا الالتزام أمن المنطقة فحسب، بل يعزّز أيضًا الاستقرار الجيو-اقتصادي في آسيا، ويضمن سلامة الممرات الاستراتيجية التي تربط دول المنطقة. وبينما تتفق الرؤية السعودية والاستراتيجية الأمريكية في كثير من ملفات المنطقة، فإنهما قد تختلفان في بعضها، مما يضفي على المشهد السياسي أبعادًا أكثر تعقيدًا وأهمية.
يشير الاتفاق الأمريكي الروسي، الذي استضافته المملكة العربية السعودية، إلى قدرتها على لعب دور الوسيط المحايد والمؤثر في القضايا الدولية. هذا الاتفاق يعكس ثقة القوى الكبرى في الدور السعودي الفاعل، مما يمهد الطريق لإمكانية تدخل سعودي بنّاء في الملف الأفغاني، خاصةً في ظل تراجع الدور الأمريكي هناك وتصاعد نفوذ قوى إقليمية أخرى. ومع تغير التحالفات الإقليمية وتصاعد التوترات في آسيا الوسطى، يُعَدّ استقرار أفغانستان مفتاحًا للأمن الإقليمي. ومن هذا المنطلق، تستطيع السعودية استخدام ثقلها السياسي ومكانتها الدينية للتوسط بين الفصائل الأفغانية، بما يعزز من مكانتها كقوة إقليمية تسعى لتحقيق السلام والاستقرار.
في هذا السياق، يبرز دور المملكة كمحور محوري في تعزيز الاستقرار الإقليمي والدولي. يمكن للسعودية أن تقود جهود الوساطة السياسية والدبلوماسية بين الأطراف الأفغانية، مما يسهم في تحقيق المصالحة الوطنية. كما يمكنها دعم الاقتصاد الأفغاني عبر تقديم مساعدات اقتصادية واستثمارات في مشروعات البنية التحتية، مما يعزز من استقرار الاقتصاد المحلي. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للمملكة تعزيز التعاون الأمني الإقليمي لمكافحة الإرهاب وضمان استقرار الحدود، بما يتماشى مع سياساتها الرامية لتعزيز الأمن الإقليمي.
بفضل مكانتها الدينية الرائدة، تستطيع السعودية أن تلعب دورًا ثقافيًا ودينيًا مهمًا في دعم خطاب الاعتدال والتعايش السلمي في أفغانستان، مما يعزز الوحدة الوطنية ويحد من التطرف. تعكس هذه الجهود رؤية المملكة لتعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي، بما يتماشى مع سياستها الخارجية القائمة على الحوار والسلام.
في هذا السياق، يبرز دور السعودية في مواجهة الفكر المتطرف ودعم الاستقرار الاجتماعي من خلال تعزيز التعليم والتعاون الثقافي. وتدرك المملكة أن مكافحة التطرف لا تقتصر على الجوانب الأمنية، بل تشمل أيضًا معالجة الجذور الفكرية والثقافية. من هذا المنطلق، يمكن للسعودية أن تقود مبادرات ثقافية وتعليمية لنشر قيم الاعتدال والتسامح والتعايش السلمي.
تستند هذه الجهود إلى مكانة المملكة الرائدة في العالم الإسلامي ودورها كمركز للإشعاع الثقافي والديني. ومن خلال استراتيجيات شاملة للتعليم والتثقيف، تستطيع السعودية الإسهام في بناء مجتمعات مستقرة ومزدهرة. كما يمكنها توظيف قوتها الناعمة لتعزيز التواصل الثقافي بين الشعوب، مما يعزز التفاهم المتبادل ويحد من النزاعات الفكرية.
ترتكز الرؤية على تطوير المناهج لتعزيز التسامح والانفتاح الفكري، ودعم المؤسسات التعليمية في المناطق ذات التحديات الفكرية لنشر الوعي الثقافي. كما ستسعى لتعزيز التعاون الثقافي الدولي عبر تبادل البرامج التعليمية والثقافية.
إضافةً إلى ذلك، يمكن للسعودية أن تؤثر في مكافحة التطرف الفكري عبر الإعلام من خلال إطلاق حملات هادفة لتعزيز الوعي بمخاطر التطرف وتشجيع الحوار الفكري البناء. تأتي هذه المبادرات ضمن رؤية المملكة لتعزيز السلام والاستقرار الإقليمي، وتأكيد دورها كقوة إقليمية مسؤولة تسعى لبناء مستقبل مستقر ومزدهر.
رغم الفرص الكبيرة التي يتيحها الملف الأفغاني، تواجه المملكة تحديات معقدة تتطلب نهجًا دبلوماسيًا حذرًا واستراتيجيات مدروسة. من بين هذه التحديات المنافسة الإقليمية مع قوى مؤثرة مثل إيران باكستان وتركيا وغيرها من الدول العربية، إضافةً إلى تعقيدات المشهد الداخلي الأفغاني بما يحمله من توازنات سياسية وقبلية دقيقة. ومع ذلك، فإن المكانة الرائدة التي تحظى بها السعودية ومرونتها الدبلوماسية تمنحها فرصة فريدة لتعزيز الاستقرار في أفغانستان والمساهمة في تحقيق السلام الإقليمي.
يمكن للسعودية أن تلعب دورًا محوريًا في هذا السياق عبر دعم جهود المصالحة الوطنية في أفغانستان من خلال وساطة حيادية تجمع كافة الأطراف التي تؤمن بالإصلاح والتغير الى طاولة الحوار، مما يعزز من فرص التوافق الوطني. كما تستطيع السعودية استخدام نفوذها السياسي والديني لتعزيز خطاب الاعتدال والتعايش السلمي، بما يحد من انتشار الفكر المتطرف.
وفي ظل التحولات الجيوسياسية، يمكن للمملكة أن تدعم استقرار الاقتصاد الأفغاني من خلال تقديم مساعدات إنسانية ومشاريع تنموية تساهم في تعزيز الاستقرار الاجتماعي. كما يمكنها تعزيز التعاون الأمني الإقليمي لمكافحة الإرهاب وضمان أمن الحدود، بما يعكس التزامها بمسؤولياتها الإقليمية والدولية.
تجسّد هذه الجهود رؤية المملكة العربية السعودية في تعزيز السلام والاستقرار العالمي، انطلاقًا من دورها كقوة إقليمية مسؤولة. ومن خلال استراتيجياتها الشاملة، ستواصل المملكة تعزيز دورها الفاعل في الملف الأفغاني، بما يحقق مصالحها الوطنية ويدعم الأمن الإقليمي. وبمقدورها تشجيع وتسريع وتيرة الإصلاحات الداخلية في أفغانستان، وحثّ المجتمع الدولي على الانخراط المباشر مع حكومة الأمر الواقع، بهدف تخفيف معاناة الشعب الأفغاني وتعزيز المساعدات الإنسانية.
خاتمة
إن مبادرة سعودية جديدة تجاه أفغانستان ليست مجرد خيار سياسي، بل ضرورة تاريخية وأمنية لتعزيز الاستقرار الإقليمي وتحقيق المصالح المشتركة. وفي ظل التحولات الجيوسياسية الحالية، تبقى السعودية في موقع استراتيجي يمكّنها من قيادة جهود السلام في أفغانستان، مما يعزز من مكانتها الدولية ويحقق رؤيتها كقوة إقليمية مسؤولة.