طريق الجولاني التي عَبَّدَها الأسد
الاستماع للمقال صوتياً
|
واشنطن – مقال الرأي
بقلم رغيد عقلة
في الثالث من الشهر الماضي (ديسمبر) نشرتُ مقالاً على موقع Medium الأميركي بعنوان “ماذا يجري في سورية” خَتَمتُهُ بالقول:
((الجولاني أثبت أنه قادر على التَغَيُّر، كما أثبت الأسد دوماً أنه لا بقادر ولا براغب في أي تَغَيُّر على الإطلاق، وقوانين الطبيعة في النهاية هي التي ستسود عند الجميع، وهي واضحة: من لا يقدر على التَغَيُّر، فمن الأصلح تَغييرُه.)) … سقط نظام الأسد صباح 8 ديسمبر، أي في اليوم الخامس لنشر تلك المقالة، بعد أن فَرَّ هارباً بطريقةٍ مذِلَّه، ودَخلَ الجولاني دمشق قائداً لغرفة العمليات العسكرية التي تدير سورية اليوم، بعد أن نجح (رغم اعتبارات مهمة ليست في صالحه) بتقديم سيرة ذاتية مُنَقَّحَة، حَرُصَ بذكاء وبراغماتية أن تفي بمتطلبات شديدة الأهمية لأطراف إقليمية ودولية فاعلة في الشأن السوري، الأمر الذي أثبت الأسد دوماً عجزه عن فهمه أو الاضطلاع بِهِ رغم كل الظروف المثالية التي كانت مهيأة له.
استفاد الأسد الوريث من تناقض المصالح الإقليمية والدولية في سورية وحولها، غير مدركٍ أن هذه التناقضات هي نفسها التي ستودي بنظامه الذي نخره الفساد وسوء الإدارة، ناهيك عن ضريبة الدم المرتفعه التي دفعها السوريون جميعاً، موالين ومعارضين، على مدار أربعة عشر عاماً، وقدرات الأسد المحدودة جداً منعته من استيعاب أن التعقيدات الإقليمية والدولية في المنطقة والتي استفاد منها دون أن يكون له كثير تأثير في مجرياتها، سوف تأخذ منحىً مختلفاً تماماً بفعل تداعيات طوفان غزة الذي فرض واقعاً جديداً يتطلب منه تغييراً أساسياً في تموضعه الإقليمي، كان عاجزاً عن فهمه، ناهيك عن القيام به.
طوفان غزة وتداعياته أفضيا إلى خروج صارخ عن قواعد الاشتباك الإقليمي بين إيران وإسرائيل حافظ الطرفان عليها لسنين طويلة، مما استدعى تبدلاً كبيراً في طريقة التعاطي بين إيران والغرب، كانت قائمة على غض النظر عن تمددها الإقليمي في ظل مفاوضات طويلة معها حول مقدراتها النووية، الأمر الذي لم يعد ممكناً في ظل الأزمة المستحكمة لنتنياهو الشخص وإسرائيل الدولة، مما وضع الغرب وإسرائيل معاً أمام استحقاق مزمن لطالما تحاشوه لأسباب مختلفة، وهو وقف هذا التمدد الإقليمي الإيراني، الأمر الذي يوقنون جميعاً أنه لن يتحقق دون تفكيك محور طهران-بيروت-دمشق.
النظام الرسمي العربي الذي لايملك كثير ود للأسد، ولديه حساسية شديدة اتجاه الإسلام السياسي الذي تمكن الأسد زوراً من دمغ أغلب مناوئيه بطابعه، تعهد لواشنطن (وبحد أقل لتل أبيب) بإبعاده عن محور طهران، ومارس وساطات مع إدارة بايدن لعدم تجديد العقوبات على نظامه، لإعطاء جهوده فرصة نجاح كان واضحاً أنها غير متاحة، لهم أو للأسد نفسه، بسبب الانعطافة الكبرى في طبيعة علاقات دمشق بطهران بين زمني الأسدين، الأب والإبن.
محور النظام الرسمي العربي الذي راهن على تأهيل الأسد (بما تصور أنه برضى إسرائيلي)، أدرك متأخراً أن الديناميات الإسرائيلية تبدلت بالكامل بعد غزة ومفاعيلها، وحالة النشوة العارمة التي غشيت معظم أعضاءه بإزاحة حسن نصر الله أفسدت عليهم فرصة قراءة التبدلات في رؤية إسرائيل واحتياجاتها الجديدة التي لم تعد تملك رفاهية مسايرتهم في محاولات استجرار الأسد بعيداً عن طهران، التي لم تعول تل أبيب عليها كثير أمل يوماًً، بالمقابل فالأسد المنفصل دوماً عن الواقع لم يدرك أن ما يؤمنه نظامه لإسرائيل لم يعد كافياً كثمن لبقائه، هكذا دخل الأسد مرحلة الخطر الشديد التي لم يستوعبها تماماً إلا بعد سقوط حلب، وكان الأوان قد فاته هو ومحور النظام الرسمي العربي الذي راهن على إبعاده عن طهران، ومن هنا لم يستطع اجتماع ربع الساعة الطارئ والذي لم يعلن عنه بين أهم أقطاب المحور أن يقدم أي شيء لمنع سقوط الأسد.
إذا كانت انتكاسة سقوط الأسد غير كافية لِتُؤَرِّق النظام الرسمي العربي، فأن تكون أنقرة والدوحة هما تحديداً من اقتنصتا اللحظة الإقليمية النادرة، بضوء أخضر أميركي يراعي متطلبات إسرائيلية، هما تحديداً من دعمتا عملية إسقاطه من ألِفِها إلى يائها، وأن تكون هيئة تحرير الشام ومعها تحالف ضم فيما ضم بعض تيارات السلف الإسلامي (الراديكالي) هم من تولوا التنفيذ، فهذه كلها أسباب مفهومة تماماً لحالة التوجس الرهيب التي تنتاب هذا المحور اليوم.
لايحتاج المراقب لكثير من الأدلة لتأكيد موقف النظام الرسمي العربي الرافض بالمطلق لوصول أي من التيارات الإسلامية لناصية الحكم في أي بلد عربي، ناهيك أن يكون سوريا بكل ما تمثله من دور محوري في قضايا المنطقة، بغض النظر عمن يحكمها، ولعل الدعم السخي جداً الذي تلقته هذه التيارات نفسها في مراحل متعددة من عمر المأساة السورية من قبل بعض الدول الفاعلة في النظام الرسمي العربي نفسه كان المقصود منه أهداف مختلفة ومتعددة، أستطيع أن أجزم أن إمكانية وصولهم للحكم لم تكن من ضمنها على الإطلاق.
لعل أكثر مايؤرق النظام الرسمي العربي اليوم هو إدراكه أن ماحصل في سوريا من إسقاط سريع للأسد ووثوب أسرع لقصر الشعب لتيارات كانت وستبقى تشكل كابوساً مرعباً له، ما كان ليتم دون ضوء أخضر وربما دعم ضمني من واشنطن يراعي مصالح تل أبيب، الأمر الذي سَيُعَقِّد على هذا النظام مواجهة الوضع الجديد في دمشق (الآن)، طالما أن المعادلة المعقدة التي سمحت به لاتزال قائمة، ولعل هذا الإدراك من قبل النظام الرسمي العربي والذي جاء متأخراً فقط بما سمح بالسقوط السريع والمثير للأسد ونظامه، كان مبرراً كافياً لحالة الخذلان التي انتابت الأسد المخلوع في ساعاته الأخيرة، والتي أجزم أنها كانت تطال أهم رموز النظام الرسمي العربي دون غيرهم، حالة الخذلان هذه كانت دون شك وراء الإجراءات التي أصر الأسد على القيام بها في ساعاته الأخيرة، وتمثلت في أمرين محددين:
الأول رفضه المطلق للتنحي لأي بنية عسكرية ربما تكون قادرة على لملمة الوضع وتحصين دمشق ضد قوات المعارضة القادمة من الشمال والجنوب (والتي كانت متواضعة نسبياً في عدادها وعديدها).
والثاني هو فصم عرى الجيش بالمطلق وإصدار أوامر التسليم ورمي السلاح.
كانت نوايا الأسد المخلوع واضحة وشريرة، وهي استمرار لمقولة (الأسد أو نحرق البلد)، وإصراره على أن يسلم البلد للتيارات الإسلامية دون غيرها كان مُوَجَّهاً بالتحديد لهذا النظام الرسمي العربي الذي كان يحاول المستحيل لمساعدته وإعادة إنتاجه ..!! لم يكتفِ بذلك، ولكنه بتعطيله الممنهج لدور الجيش، وإصراره على خروج وزير الدفاع ورئيس الأركان معه، وكأنه يريد أن يُفَوِّت على النظام الرسمي العربي أي فرصة مستقبلية لعكس مجرى الأمور على غرار ماجرى في مصر في يوليو 2013.
الأسئلة المهمة الآن هي كيف سيتعامل النظام الرسمي العربي مع الوضع الجديد في سوريا مابعد الأسد؟ ومامدى قدرة الجولاني على التحول إلى نهج الدولة؟ وماهي فرص نجاح هذا التحول إن حصل؟
كل هذه الأسئلة سأحاول التوقف عندها في مقالات قادمة.
شكراً لك على هذا المقال الممتاز ، ولكنه لم يتضمن أسباب تعلق الأنظمة العربية بنظام الأسد البائد.
أيضاً لم يتضمن المقال هرولة هذه الأنظمة إلى احتواء النظام الحالي ومحاولة التحكم به ، والمخاوف المستقبلية من احتمالات تمدد الوعي الثوري والنهضوي التي قد تكون عوامل خطر على هذه الأنظمة.
شكراً لقراءتك، ولتعليقك، ولكلماتك الطيبة.
لاأعتقد أن أي نظام عربي كان متعلقاً فعلاً بالنظام البائد، ولكن كما أوضحت في المقال فإن للنظام الرسمي العربي هواجسه من تيارات الإسلام السياسي التي نجح نظام الأسد بتعميم صورة نمطية عن معارضيه بأنهم من أنصار هذه التيارات.
كذلك لا أعتقد أن هناك هرولة حقيقية من قبل دول معينة باتجاه النظام الحالي وإنما تجد نفسها مضطرة لذلك حتى لاتترك المجال السياسي السوري متاحاً فقط للدول التي دعمت الحراك الذي تمكن من اقتناص اللحظة الإقليمية المهمة لدحر نظام الأسد البائد.
مودتي وتقديري لك.