آخر التحديثاتأبرز العناوينبناء السلامقضايا جندريةمقال الرأي

أفغانستان بين مطرقة الحصار الدولي وسندان طالبان

الاستماع للمقال صوتياً

كاليفورنيا – مقال الرأي

الدكتور عبيدالله برهاني

تمر أفغانستان في مرحلة حرجة من تاريخها المعاصر، حيث تواجه تحديات سياسية واقتصادية معقدة جراء تأثيرات الحصار الدولي من جهة، والسياسات الداخلية التي تنتهجها حركة طالبان من جهة أخرى. هذا التداخل بين الضغوط الدولية والعوامل المحلية يعكس حالة من الاضطراب التي تزداد تعقيدًا، ما يستدعي استجابة دبلوماسية متوازنة لضمان استقرار البلاد وتخفيف معاناة الشعب الأفغاني.

منذ تولي حركة طالبان السلطة في أفغانستان في أغسطس 2021، فرض المجتمع الدولي سلسلة من العقوبات الاقتصادية التي كان لها تأثير مدمر على الاقتصاد الأفغاني. تم تجميد الأرصدة الحكومية في البنوك الدولية، كما فُرضت قيود مشددة على المعاملات المالية مع الخارج، مما فاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد. نتيجة لذلك، عانت الحكومة من صعوبة شديدة في تمويل مشاريع التنمية والخدمات الأساسية، مما أضعف قدرتها على تقديم الدعم للمواطنين.

من جهة أخرى، أدى توقف تدفق المساعدات الدولية، التي كانت تمثل جزءًا كبيرًا من ميزانية الحكومة السابقة، إلى تفاقم الوضع الإنساني بشكل ملحوظ. وواجه ملايين الأفغان نقصًا حادًا في الغذاء والماء، بالإضافة إلى تدهور الخدمات الصحية والتعليمية. كما أن أفغانستان تعيش عزلة سياسية على الساحة الدولية، حيث لم تعترف معظم الدول بحكومة طالبان، مما يزيد من حالة عدم الاستقرار ويضاعف من صعوبة الوضع الداخلي.

في مواجهة الضغوط الخارجية، تسعى حركة طالبان إلى فرض هيمنتها على الساحة الداخلية من خلال إرساء الأمن وتعزيز حكمها. ومع ذلك، فإن سياساتها في مجال حقوق الإنسان، وخاصة في ما يتعلق بالنساء والتعليم، تثير انتقادات واسعة على الصعيدين الإقليمي والدولي. فقد قامت الحركة بإغلاق المدارس الثانوية للفتيات وأعادت فرض قيود صارمة على حرية الحركة والعمل للنساء، وهو ما يعد تراجعًا عن وعودها السابقة بتحقيق تقدم في هذا المجال.

من جهة أخرى، تواجه طالبان تحديات أمنية مستمرة، في مقدمتها تصاعد الهجمات الإرهابية التي ينفذها تنظيم “داعش” والجماعات المتطرفة الأخرى. ورغم محاولات الحركة لتعزيز الأمن الداخلي، تبقى الأوضاع الأمنية في البلاد هشة، مما يعرض حياة المواطنين لمخاطر متواصلة

يعيش الشعب الأفغاني في ظل ظروف اقتصادية وإنسانية قاسية، حيث يعاني المواطنون من ارتفاع معدلات البطالة والفقر، بالإضافة إلى استمرار القيود المفروضة على التجارة والاستثمار. كما يعاني العديد من الأفغان من النزوح الداخلي نتيجة استمرار العنف والصراع، مما يزيد من تعقيد الوضع الإنساني. الفئات الأكثر تضررًا من هذه الأزمة هي النساء والأطفال، الذين يعانون من نقص شديد في فرص التعليم والرعاية الصحية، فضلاً عن ندرة فرص العمل.

من أجل معالجة الوضع الراهن في أفغانستان، ينبغي أن يتبنى المجتمع الدولي مقاربة دبلوماسية شاملة تراعي مصالح جميع الأطراف المعنية. يجب أن يشمل ذلك فتح قنوات حوار مباشرة مع حركة طالبان، مع ضمان تحسين وضع حقوق الإنسان، خاصة حقوق المرأة. يمكن أن يكون هذا الحوار خطوة مهمة نحو بناء الثقة بين طالبان والمجتمع الدولي، ما يسهل تقديم الدعم الإنساني المباشر للشعب الأفغاني دون التأثير على السياسات الداخلية للحركة.

بالإضافة إلى ذلك، يجب دعم الشعب الأفغاني من خلال المنظمات الإنسانية غير الحكومية التي يمكنها تقديم المساعدات في مجالات الغذاء والصحة والتعليم. سيكون لهذا الدعم المباشر دور بالغ في تخفيف حدة الأزمة الإنسانية.

من جانب آخر، ينبغي ممارسة ضغط دبلوماسي على طالبان لتحقيق إصلاحات تدريجية في مجالات حقوق الإنسان، خصوصًا فيما يتعلق بالمرأة والتعليم. قد يكون هذا السبيل الوحيد لتحقيق التوازن بين ضمان حقوق الشعب الأفغاني والحفاظ على الاستقرار الداخلي في البلاد.

لا يمكن إغفال الدور الحيوي الذي يمكن أن تلعبه الدول الإقليمية في حل الأزمة الأفغانية. دول مثل الصين وقطر والإمارات والسعودية وتركيا يمكن أن تسهم في دفع طالبان نحو اتخاذ خطوات إيجابية لتحسين الوضع الداخلي، من خلال دعم المبادرات الاقتصادية وتعزيز الاستقرار الأمني.

في هذا السياق، من المهم أيضًا دعم التيارات الفكرية المعتدلة داخل حركة طالبان، بما في ذلك الوجوه البارزة والمعروفة التي تجاهلها المجتمع الدولي منذ اتفاقية الدوحة، كما أشرت في مقالتي. كذلك، ينبغي تمكين الشباب الأفغاني المتوازن، الذين يمتلكون قدرات قيادية ويميلون إلى تبني نهج معتدل يتوافق مع التوجهات الدولية والحقائق المحلية. هؤلاء الشباب يمكن أن يكونوا فاعلين في عملية التغيير، لذلك يجب تمكينهم من المشاركة في الحوارات الوطنية وصنع القرار السياسي، مما يسهم في تطوير بيئة مستقرة في أفغانستان.

أيضًا، ينبغي دعم التعليم المدني ونشر الوعي بالقيم التي تجمع بين النظم المختلفة في العالم، وذلك من خلال توفير منصات إعلامية ومبادرات مجتمعية لزيادة تأثير الخطابات المعتدلة والتصدي للأيديولوجيات المتطرفة.

في الختام، تمر أفغانستان بمرحلة حرجة تتطلب تضافر الجهود الدولية والإقليمية من خلال الانخراط المباشر لتجاوز التحديات السياسية والاقتصادية التي تواجهها. إن التوازن بين الضغط على طالبان لتحقيق الإصلاحات الداخلية، وتقديم الدعم الإنساني المباشر للشعب الأفغاني، يمثل الطريق الوحيد نحو استقرار طويل الأمد. كما أن تعزيز التيارات الفكرية المعتدلة، سواء داخل الحركة أو خارجها، وإشراك الشباب الأفغاني في عملية التغيير، سيشكل خطوة حاسمة نحو بناء مجتمع مستقر ومتقدم. إن الحلول المستدامة تستند إلى التعاون البناء والتفهم المشترك، مما يتيح لأفغانستان أن تستعيد مكانتها على الساحة الدولية وتحقق رفاهية شعبها في المستقبل القريب

د. عبيد الله البرهاني

أكاديمي وكاتب سياسي أميركي من أصل أفغاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى