ماكرون ونهاية زمن المراهقة السياسية
الاستماع للمقال صوتياً
|
واشنطن – مقال الرأي
بقلم نشمي عربي
في السياسة، كما في الحب، لايوجد قائد تاريخي، ولا عاشق أسطوري، هناك لحظة تاريخية، يقرؤها السياسي الملهم، والمحب المرهف، ويعرفان كيف يبنيان عليها، ليحققا ما يرنوانِ إليه.
قرأ عبد الناصر موقف آيزنهاور الرافض للعدوان الثلاثي على مصر عقب تأميمه للقناة عام 1956 على أنه بداية لانحسار النفوذين البريطاني والفرنسي في المنطقة لصالح النفوذ الأميركي، تماماً كما قرأ قيام عناصر المقدم عبد الحميد السراج من الشعبة الثانية في الجيش السوري بتفجير أنابيب التابلاين لتخفيف الضغط الغربي عليه في مواجهته لهذا العدوان، ليدرك أن لحظة تاريخية فارقة آخذة في التشكل، عرف كيف يبني عليها ويطلق مرحلة (الصعود القومي) التي تُوِّجَتْ بقيام الجمهورية العربية المتحدة عام 1958، واستقلال الجزائر عام 1962, الذي ساهمت به مخابراته العامة ممثلةً ب “فتحي الديب” الذي فَرَّغَهُ ناصر لدعم كفاح جبهة التحرير من القاهرة.
الجنرال ديغول بدوره لم يكن أقل براعةً في قراءة اللحظة التاريخية على ضوء التحولات الجيوسياسية التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وانتقال ثقل القرار العالمي من لندن وباريس إلى واشنطن التي دعمت نضالهما ضد النازي، فاعترف باستقلال الجزائر متحدياً رغبة دوائر نافذة في الطبقتين السياسية والعسكرية الفرنسيتين، لم يقرؤوا ما قرأه الجنرال العتيد.
اللحظات التاريخية لا تكون وليدة ساعتها، فهي عادةً حاصل تراكمات عديدة، على امتداد حيز زمني واسع،
ولكنها بحاجة لحدث فارق يساعد في إطلاقها، وهذا بالضبط ما أحدثه زلزال اغتيال رفيق الحريري في بيروت عام 2005، الذي خلق لحظة سياسية فارقة راكمت على كل ارتكاسات الوجود العسكري والاستخباري السوري في نفوس اللبنانيين لعقودٍ ثلاثة، وتَحَكُّمَهُ في كافة مفاصل حياتهم، وكأنه قدرهم المقدور الذي لا انفكاك منه.
قَرَأَ سياسيو 14 آذار تلك اللحظه الفارقة ببراعه، وعرفوا كيف يبنوا عليها زخماً سياسياً وشعبياً متصاعداً، واكبته جهود عربية ودولية متناسقة، تُوِّجَت بتفعيل قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559 القاضي بخروج القوات السورية من لبنان، الأمر الذي حصل فعلاً في نهايات نيسان/أبريل 2005, أي خلال شهرين ونصف من اغتيال الحريري.
الأمر الذي اختار ساسة 14 آذار عدم قراءته جيداً هو أن تجسيد حلمهم المزمن بخروج القوات السورية من لبنان سوف يحيلهم إلى كابوس أكثر هولاً، وهو إطباق حزب الله مدعوماً بحاضنة شعبية وازنة على كل مفاصل القرار اللبناني، السياسية والعسكرية والاقتصادية والمالية والاجتماعية، وحتى الصحية والخدمية، وتحت يافطة “الثنائي الشيعي” ذات المظهر البرلماني القانوني، الذي لم يكن سوى رداء (شادور) بشع لتركيبة هي مزيج من (البلطجة والفتونة) بحق اللبنانيين جميعاً، وأولهم الشيعه، تأمر وتنهى عنهم، وتحتكر قرار الحرب والسلم عنهم، وتختار رؤساء الجمهوريات والحكومات عنهم، وتفتح مجلس النواب وتغلقه باسمهم، وتعطل القرارات والمراسيم كما تشاء، في ولاءٍ معلنٍ لعقيدة ولاية الفقيه التي أحالوا لها مصائر اللبنانيين جميعاً، بغض النظر عن مذاهبهم وطوائفهم، وبمنتهى التحدي.
بين الحلم والكابوس جاء تفجير ميناء بيروت عام 2020, وكل الظروف والملابسات التي أحاطت به وبالتحقيقات حوله، لتحمل لحظةً فارقة ونادرة أُخرى في الحياة السياسية اللبنانية، كان من الممكن جداً توظيفها واستغلالها كلحظة اغتيال الحريري، ليتوحد فيها اللبنانيون جميعاً ليقولوا لا واحدة كبرى لحالة اللادولة التي فرضها حزب الله عليهم لصالح دولة الولي الفقيه المسؤولة عن كل الظروف التي قادت لهذا الانفجار الكبير الذي لم يكن على هوله سوى تعبير مصغر على مدى هشاشة وضعف لبنان كله أمام صلف وخيلاء حزب الله وجمهوره، وعلى حساب اللبنانيين جميعاً.
كل مكونات وعوامل تَشَكُّل تلك اللحظة الكبرى التي كان من الممكن أن تودي ببلطجة حزب الله كانت موجودة، محلياً وعربياً ودولياً، وبحضور لافت أدركه الحزب نفسه، فاختار الترقب بصمت في الفترة القصيرة التي تلت التفجير المأساوي، في تلك الظروف تماماً يختار الرئيس “ماكرون” أن يطير إلى بيروت لِيُطَيِّب جراحها، في وقتٍ كان من الممكن لتلك الجراح أن تكون فاتحة أمل لللبنانيين جميعاً، وفي مقدمتهم الشيعة، ليقولوا لا وللأبد لتسلط حزب الله وجمهوره، تماماً كما قالوا لا صارمة للوجود السوري في لبنان باللحظة التي أعقبت اغتيال الحريري.
من الصعب جداً التفكير بزيارة ماكرون لبيروت عقب تفجير الميناء دون أن تتداعى في الذاكرة زيارة سلفه جاك شيراك للمدينة المنكوبة نفسها عام 2005 لتشييع صديقه الحريري لمثواه الأخير، فالزيارتين جاءتا بعد حدثٍ لبنانيٍ مزلزل، وفي قمة لحظة سياسية فاصلة في تاريخ البلد، الفرق الكبير هو أن زيارة شيراك ساهمت في تجسيد هذه اللحظة وإعطاءها زخماً دولياً وأممياً يليق بمكانة فرنسا وعلاقتها الخاصة بلبنان، بينما جاءت زيارة ماكرون لتجهض هذه اللحظة، وتحيلها من بُعدِها السياسي الوازن إلى دورٍ يليق بِمُصْلِح اجتماعي.
جلبت زيارة ماكرون لبيروت عقب تفجير الميناء أدويةً وأغذيةً وحَفَّاضات أطفال، بينما جلبت زيارة شيراك للمدينة نفسها عقب اغتيال الحريري ثقةً وأملاً وثِقَلاً دولياً وازناً، أعطى حراك اللبنانيين في ساحة الشهداء زخماً هم أحوج ماكانوا إليه في لحظةٍ فارقة من تاريخ بلدهم.
قام ماكرون بدور ممرضة الأطفال وراعية المسنين وجعل من بلده مركز خدمات اجتماعية ومستوصف، وتصرف شيراك كزعيم ديغولي كبير أعاد وضع فرنسا في قلب خارطة التوازنات العالمية في الشرق الأوسط.
كانت النتيجة المباشرة والوحيدة لزيارة ماكرون لبيروت أنها أخرجت حزب الله وجمهوره من حالة الترقب والتوجس التي لاذوا بها عقب مأساة تفجير الميناء مباشرةً، وجعلتهم يتنفسون الصعداء بعد أن قرؤوا فيها حدود الموقف الفرنسي المختلف تماماً عنه على يد شيراك عقب اغتيال الحريري، ليعودوا لسياسة الصوت العالي من جديد، ووضع العصي في عجلات تحقيق قضائي فعلوا كل شيء لإرهابه لحد الكساح.
أدرك ماكرون أن زيارته تلك لم تجلب للبنان وفاقاً ولا حتى توافقاً، فعاد خلال أقل من شهر لبيروت، ليختار هذه المرة وفي ذروة الانقسام والاختلاف اللبناني أن تكون زيارته للرمز الوحيد الذي توحد حوله اللبنانيون جميعاً، السيدة فيروز … وعلى طريقة مجلة “ريما” أو “سمر” تصوران “فرانكو كاسباري” مع “كلاوديا ريفيلي” جاءت زيارته تحت عنوان (موعد على فنجان قهوة في أنطلياس) …!!
حضر الرئيس الشاب، فبدا مُشرِقَاً وحَضَارياً وواعداً في كل شيء، إلا مايحتاجه اللبنانيون فعلاً، وصغيراً أمام قامة شامخة بحجم السيدة فيروز … كذلك تماماً بدت فرنسا، الدولة التي ينظر لها بعض اللبنانيين على أنها (الأم الحنون) بدت كمربيّة أطفال سيريلانكية، ولو أن مريولها من عند “بيير كاردان”.
إن كان هناك من محصلة نهائية لتحرك الرئيس ماكرون عقب تفجير ميناء بيروت بما فيه زيارتيه للمدينة المنكوبة فهي أنه أجهض ظَرْفاً نادراً توافق فيه اللبنانيون على رفض حالة اختطافهم هم وبلدهم لصالح ولاية الفقيه، وكان من الممكن أن يحظى بدعم دولي وعربي كالذي أعقب اغتيال الحريري.
أعلم أن تحركات ماكرون التي لطالما هادَنَتْ طهران وأذرعها الإقليمية قد تكون تعبيراً عن مصالح اقتصادية فرنسية مع إيران، لشركات مثل توتال، داسو، لافارج، سيتروين، بيجو، وربما غيرها، ولكني أعلم أيضاً أن هذه الاعتبارات لم تكن ضاغطه جداً، والأهم هو أن تحركه السياسي لم يقدم لهذه المصالح أية خروقات كبرى تدفع بعجلة الاقتصاد الفرنسي، أو تخفف من حدة الدين العام، أو حتى تعفيه من مشروع رفع السن التقاعدي للفرنسيين تحت ضغوطات اقتصادية ومالية حقيقية.
يعيش لبنان اليوم ومعه المنطقة كلها مرحلة قد تكون فارقة في رسم ملامحها لعقود قادمة، وإذا كانت إسرائيل مدعومةً من الولايات المتحدة خصوصاً والغرب عموماً هي صاحبة اليد الطولى في هذا الرسم، فإن هذه المرحلة هي النتيجة الطبيعية لتراكم تفاهمات وتوازنات لم تغب عنها إسرائيل يوماً، بل كانت دوماً الطرف الفاعل فيها، في تناغم دقيق مع أطراف الإسلام السياسي بشقيه، السني ممثلاً بحماس والجهاد، والشيعي ممثلاً بحزب الله، وإن كان خروج الأخيرين منذ أكتوبر 2023 عن توازناتهم الدقيقة التي لطالما حافظوا هم وإسرائيل عليها، نتيجة خطأ في تقديراتهم هم وإيران، أو أمراً مقصوداً، فهم في المحصلة شركاء مع إسرائيل في المسؤولية عن هذه اللحظة المكلفة جداً للجميع، والتي قضت على أي أمل في العودة للوراء.
الموقفان الغربي و الإسرائيلي اليوم واضحان وغير منفتحان على أية مساومة فيما يتعلق بإنهاء دور الإسلام السياسي في المنطقة، الذي لن يتم دون وضع إيران ضمن حدودها والقضاء على كل تمدد إقليمي لها، إن كان عبر التنظيمات أو الدول … وليس سراً على الإطلاق أن هذا الموقف تدعمه قوى عربية وازنة، سواء بحكم ثقلها السياسي والاقتصادي، أو بحكم الجغرافيا، ولاعودة إلى الوراء.
الخاصرة الرخوة الوحيدة اليوم (حتى لا أقول الثغرة) في الموقف الغربي الحاسم ضد إيران وأذرعها تمثلت في مواقف الرئيس ماكرون، التي تحاول بكل عناد وعبثية الوقوف في وجه هذا المتغير الذي تسير المنطقة كلها باتجاهه، وإن كان ظاهر هذه المواقف يحمل بعداً إنسانياً ما، إلا أنها في الواقع ملتزمه بخطه المعتاد القائم على تدوير الأزمات وتجديدها بل ومحاولة بث حياة جديدة فيها، أملاً في جني مكاسب اقتصاديه لبلده، لم ينجح مرة واحدة في تحقيق ولو جزء بسيط منها، فالأوضاع المالية والاقتصادية الفرنسية اليوم (وحسب الأرقام الرسمية الفرنسية) هي الأسوء منذ عقود طويلة.
مواقف وتحركات الرئيس ماكرون لم تنجح يوماً في تحقيق أي إنجاز اقتصادي فاعل لبلاده، أو أن تسهم في صنع حلول حقيقية لأزمات المنطقة المستعصية، وخسارته لليمين واليسار معاً في فرنسا، تسير بالتوازي مع عدم قدرته على فرض فرنسا كشريك فاعل في أية حلول دولية حقيقية.
لست معنياً بالاتهامات التي وجهها نتنياهو لماكرون مؤخراً، ولكنني أعلم أنها قادرة على أن تودي بمستقبله السياسي مابعد الرئاسة، وأحلامه بأي موقع أممي يتوق له، وتأرجحات مواقفه مما يجري في المنطقة اليوم اضطرت الرئاسة والخارجية الفرنسيتين لأخذ مواقف وعكسها في يوم واحد.
اليوم، وبناءً على مواقف ماكرون الحالية التي لاتزال تحاول مهادنة إيران وحزب الله، دون أي عائد اقتصادي حقيقي لبلده، والأهم من ذلك دون فرص حقيقية لنجاح تحركاته، والمواقف المتناقضة لإدارته، يبرز سؤال مهم، ليس فقط للمهتمين بسياسات الشرق الأوسط، وإنما للفرنسيين قبل غيرهم:
القوى الكبرى في العالم اليوم، وبالتضامن الكامل مع دول عربية واقليمية مهمة، ماضية دون تراجع في طي صفحة الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي، وفي وقف التمدد الإيراني في المنطقة، ففي أي جانب يرى الرئيس ماكرون والفرنسيين بلدهم؟ وهل ستكون السنوات القليلة المتبقية في رئاسته استمراراً لحالة الثرثرة والمراهقة السياسية التي رأيناها حتى الآن؟
تحليل منطقي لواقع ماكرون الضعيف والمتردد
شكراً لقراءتك ولتعليقك الكريم.