لماذا مازلنا نحب “فيلم ثقافي”؟
الاستماع للمقال صوتياً
|
ثقافات – خاص البيت الأبيض بالعربية
بقلم أحمد المسيري
لا يؤذي الإنسان أكثر من كبت المشاعر السلبية طويلاً
“سيغموند فرويد”
للسينما سحر خاص، وقد أصبحت السينما الوسيلة الأولى للترفيه لما تقدمه من منتج يسهُل تداوله وإنتشاره ويلقى قبولاً واسعاً من الجمهور وهو الفيلم السينمائي، ورغم النظرة المادية المجردة في بعض الأحيان للسينما على أنها صناعة مثل باقي الصناعات بما تتضمنه من أبعاد إقتصادية وثقافية وإستراتيجية، ولكنها ستظل صناعة مختلفة عن كل الصناعات فهي صناعة الإبداع، ويُعد الفيلم عمل فني إبداعي مثله مثل الأعمال الفنية الآخرى، فمنها ما يبقى في الذاكرة ومنها ما يتم نسيانة، وبين هذا وذاك توجد نوعية خاصة من الأفلام المفعمة بالحيوية والتي لا تموت فهي تعيش معنا ونتذكر مشاهدها في بعض المواقف الحياتية، وتتحول بعض جملها ولقطاتها إلى ميم يتم تداوله على وسائل التواصل الإجتماعي، ومن هذه الأفلام الفيلم المصري “فيلم ثقافي” والذي تم إنتاجه عام 2000 وقد أثر وقتها في ثلاثة أجيال عاصرته وهي السبعينات والثمانينات والتسعينات وبعض الأجيال الحالية، وفي هذا المقال النقدي سنبحث في بعض الأسباب التي تجعل هذا الفيلم من الأفلام الباقية والمفضلة رغم مرور 24 عاماً على إنتاجه.
فيلم ذات صلة ببيئته
يعتبر تفكير الإنسان وسلوكه ماهو إلا محصلة لثقافة بيئته ومحدداتها الإجتماعية والإقتصادية والثقافية والسياسية وغيرها من المحددات، ولذلك فمقولة أن الإنسان ابن بيئته التي ترجع لأحد رواد علم الإجتماع “ابن خلدون” هي مقولة واقعية، وكذلك الأفلام فكلما إرتبط الفيلم بثقافة المكان كلما ضمن ديمومته، و“فيلم ثقافي” لم يحقق هذا فقط ولكنه قام بالتحدث بلسان حال العديد من الشباب، ورغم تركيز المخرج على الطبقة المتوسطة وكان هذا إختيار أمثل ولكنه تطرق أيضاً إلى إمتداد التأثير على الطبقة البسيطة، فالفيلم تعرض لقضية تمس قاعدة عريضة من الشباب من مستويات ثقافية وتعليمية مختلف بداية من خريجي الجامعات الحكومية وحملة المؤهلات العليا على وجه التحديد وصولاً للعمال والبسطاء، فيلم تدور قصته حول ثلاثة شباب في نهاية العشرينات من عمرهم لا تتوائم مؤهلاتهم الجامعية مع متطلبات سوق العمل في مطلع الألفية الجديدة والتي لا تشترط فقط التمكن من اللغة الإنجليزية وتعلم الكمبيوتر، ولكنها تحتاج إلى الواسطة والمحسوبية كعامل أساسي للحصول على وظيفة جيدة، ولذلك كان مصيرهم عدم الحصول على فرصة عمل مناسبة والجلوس على المقهي مثلهم مثل العديد من الشباب الذي نراهم في كادر واسع في الدقائق الأولى من الفيلم.
يمكن النظر لفيلم ثقافي على أنه دراسة حالة لجيل من الشباب المحبط الذي عاش في بيئة ضاغطة سلبتهم حقوقهم الطبيعية فتحولوا من أشخاص أسوياء إلى مرضى نفسيين يلهثون خلف شهواتهم ويطلون على العالم من نافذة خيالهم المريض، فلا يكفون عن النظر إلى النساء طوال الوقت، ويلجأون إلى تفريغ شهواتهم بطرقهم الخاصة فأحدهم ينتظر جارته التي تقوم بنشر الغسيل كل يوم أحد في شرفتها لينظر لها في خلسة ويتمعن في كل تفصيلة في جسدها، بينما يلجأ الثاني إلى تأجير المجلات الإباحية والنظر إلى أجساد النساء العاريات فيها وعندما ترى والدته المجلة وتسأله عنها فيجيب بأنها مجلة خاصة بالسيارات على إعتبار أن المرأة مثل السيارة بالنسبة له، أما الشاب الثالث والذي يقوم بعمل دبلومة دراسات عليا في كلية العلوم فبدلاً من الإهتمام بالتفاعلات الكيميائية التي يقوم بها في المعمل يستسلم لتفاعلاته الداخلية الناتجه عن الكبت فلا يتوقف عن النظر إلى زميلاته بشهوة حتى يصل إلى درجة الهياج فيذهب إلى دكتور المادة ليلقي اللوم على ملابس زميلاته بدلاً من التحكم في نفسه.
ويرى فرويد أنه حينما لا يستطيع الأفراد تفريغ طاقاتهم المكبوتة والتصرف تجاه الأشياء المحبطة في حياتهم بطرق طبيعية ومألوفة، يلجأون إلى البحث عن بدائل وطرق آخرى لتفريغ هذه الشحنات السلبية والتنفيس عن هذه الإحباطات والأزمات، وطبقاً لرؤية فرويد يلجأ الشباب الثلاثة في “فيلم ثقافي” إلى تفريغ هذه الشحنات من خلال شريط فيديو لفيلم إباحي لممثلة شبيهة للنجمة الشهيرة “سلمى حايك” حصلوا عليه من زميلهم، فتتمحور رحلتهم وهدفهم الأول والأخير حول إيجاد مكان يشاهدون فيه هذا الفيلم والذي يعتبر بالنسبة لهم ملاذهم الأخير وأقصى طموحاتهم، فيتواصلون مع شخص يُدعى “برايز” بما يحمله اللقب من إسقاطات ورمزيات لها دلالات جنسية في عالم الرجال، هذا الشخص يقومون بتقديره وإحترامه فهو بالنسبة لهم زعيم وقائد حركة المثقفين وهو الذي يقوم بتنظيم وتنسيق كل جلسات مشاهدة الأفلام الإباحية بالإضافة إلى متابعته لكل الأفلام الإباحية التي تظهر في السوق.
ليست أزمة جيل ولكنها أزمة كل جيل
في هرم الاحتياجات الخاص بعالم النفس الأمريكي الشهير “ابراهام ماسلو” والذي تم تقديمه ضمن ورقته البحثية الخاصة بنظرية الدافع البشري سنجد أن الجنس يقع ضمن الاحتياجات الفسيولوجية الأساسية والمؤسسة لقاعدة الهرم، مثله مثل الإحتياج للغذاء والماء والراحة والتنفس، وفي بلادنا العربية يعتبر الزواج هو الوسيلة المشروعة الوحيدة لممارسة الجنس، ولكن من جانب آخر ترتفع تكاليف الزواج سواء على الرجل أو حتى المرأة، ومن هنا تنفجر أزمة تأخر سن الزواج وكم العراقيل والمعاناة والضغوط التي يواجهها الشباب لمجرد تفكيرهم فيه، فالأبطال في فيلم ثقافي يكتشفون أثناء رحلتهم في البحث عن مكان لمشاهدة الفيديو الإباحي أن معاناتهم من الكبت الجنسي الناتج عن عدم القدرة على الزواج ليست مشكلة فردية بل هي مشكلة السواد الأعظم من جيلهم، فطوال رحلتهم ينضم لهم رفقاء جدد جميعهم يسعون لهدف واحد وهو مشاهدة الفيلم الإباحي.
وفي وقتنا هذا ومع الإنفتاح على العالم الخارجي وسهولة الوصول إلى المواقع الإباحية المنتشرة على شبكة الإنترنت لم تنتهي مشكلة الكبت الجنسي بل تفاقمت، وتعدت مرحلة التأمل في أجساد النساء في فيلم ثقافي إلى مرحلة التحرش الصريح بالنساء خاصة في رسائل ال Others على الفيسبوك، بالإضافة إلى تعليقات بعض الشباب والمراهقين على وسائل التواصل الإجتماعي التي تستبيح النساء لمجرد كشف أجسادهن، وتبرير بعض رجال الدين والدعاه الجدد للتحرش والإهتمام بإلقاء اللوم على المرأة أكثر من الإهتمام بتحريم وتجريم الفعل نفسه، وتحولت مشكلة سعي الشباب للبحث عن مكان لمشاهدة فيلم إباحي إلى اللهث وراء مشاهدة تسريب لمقطع فاضح لبعض البلوجرز المشهورين من النساء، كما تشعبت مشكلة تأخر سن الزواج وظهرت في المقابل لها مشكلة فشل العلاقات الزوجية وإرتفاع نسب الطلاق، ونحن هنا لسنا بصدد التطرق إلى الأسباب التي أدت لذلك، أو الإستخدام السلبي للإنترنت من قبل بعض الشباب والذي تحول عشرات الألاف منهم إلى نموذج أكثر سوءاً من “برايز” بقدر الإهتمام بالإشارة إلى دور السينما في إبراز بعض المشكلات المجتمعية، وأحياناً التنبوء بالمستقبل لتؤكد على مقولة فرويد بأن “المشاعر المكتومة لا تموت أبداً إنها مدفونة وهي على قيد الحياة، وستظهر لاحقاُ بطرق بشعة“.
التعرض لقضية حساسة بإسلوب سهل مع تجنب النظرة الفلسفية العميقة
يتم تصنيف فيلم ثقافي على أنه فيلماً كوميدياً، أو بمعنى أقرب بلاك كوميدي، ولكنه في الواقع فيلم مأساوي يعبر عن العجز والقهر لفئة كبيرة من الشباب فهو عملاً فنياً يمزج ما بين المأساة والملهاة، فيلم إستطاع أن يحاكي الواقع ويقدم قضية جادة ومحورية ويضع الجميع أما مرآة الحقيقة التي يحاول الضعيف إنكارها والقوي إخفائها، إستطاع “محمد أمين” مخرج “فيلم ثقافي” كسر بعض التابوهات المجتمعية وقيامه بالنقد المستتر مع تجنب الوقوع في المحظور أو تخطي الخطوط الحمراء المرسومة بدقة، ورغم لجوئه للإسلوب المباشر وهو غير محبب في الأعمال الدرامية ولكنه إستطاع أن يضع إطار فني وموضوعي يخفف به من حدة المباشرة.
استطاع “فيلم ثقافي” أن يناقش قضية حساسة من خلال لغة بصرية بسيطة إهتمت بتعرية الحقيقة أكثر من إهتمامها بإبراز الجماليات، تعمد المخرج إظهار كل شيء على طبيعته، ورغم سيطرة ظاهرة نجم الشباك على السينما في هذا الوقت إلا أنه إعتمد في إختياره لأبطال العمل على وجوه شابه جديدة تشبه باقي الشباب، لتصبح هذه الوجوه نجوماً في وقتنا هذا مثل (فتحي عبد الوهاب، أحمد عيد، أحمد رزق)، ونجح المخرج رغم خروجه عن شكل الفيلم السينمائي المألوف وقتها أن يقدم لغته السينمائية الخاصة به، كما إستطاع من خلال بعض المشاهد التي تبدو بسيطة أن يجعلها باقية وتُخلد في ذاكرتنا بسبب إتقانة توصيل الرسالة من خلالها، ففي أحد المشاهد يذهب أبطال العمل برفقة مجموعة من الشباب لمشاهدة الفيلم في إسطبل للحمير فيشترط عليهم صاحب الإسطبل الإنتظار لحين إنتهاء الحمار من ممارسة حقه الطبيعي في الجماع ليكتشفوا أن حتى الكائنات الأدنى أفضل حالاً منهم، ومن أحد أهم عوامل نجاح العمل وبقائه هو براعة المخرج في رسم الشخصيات، ومنها شخصية “برايز” الغائب الحاضر الذي لم يظهر إلا في مشهد واحد في ذروة العمل لحل مشكلة عدم ظهور الصورة عند تشغيل الفيلم على الفيديو، فيكتشف أن السبب هو نظام الفيديو فيخبرهم بجملته الشهيرة (دي منظومة ومترتبة، أهم سؤال فيها هو النظام، النظام يابهايم) ثم يختم جملته بمقولته الشهيرة (العيب مش فيكم العيب في النظام)، وبعد فشل المجموعة في مشاهدة الفيلم ومحاولتهم لمواجهة أنفسهم بحقيقتهم وإتخاذهم قرار التغيير يقع في أيديهم فيلماً جديداً ليكتشفوا أنهم في دائرة لن يستطيعوا الخروج منها أبداً.