العلمانيون الجدد
الاستماع للمقال صوتياً
|
واشنطن – مقال الرأي
بقلم نشمي عربي
كان مبرراً أن يرتبط تيار “المحافظون الجدد” في أذهان أغلب من يتابعون المشهد السياسي الأميركي بالحزب الجمهوري، ليس فقط للسبب البديهي في أن سياسات الجمهوريين عموماً أكثر محافظةً، خصوصاً عند مقارنتها بسياسات الديمقراطيين، ولكن أيضاً لسبب أكثر أهميةً وأصالةً، وهو أن المحافظين الجدد كانوا دوماً أكثر تأثيراً ونفوذاً في ظل الإدارات الجمهورية، أخص بالذكر إدارتي الرئيس “ريغان” الأولى والثانية، وعندما وصل الرئيس “بوش” الابن للبيت الأبيض عام 2001, توقع الكثيرون أن تضم إدارته وجوهاً من إدارة والده، الرئيس “بوش” الأب، هي أقرب للمدرسة المحافظة التقليدية في الحزب الجمهوري (traditional conservatism)، ولكن ماحصل فعلاً هو أن أغلب الوجوه النافدة التي انتقاها لإدارتيه الأولى والثانية كانت أقرب بكثير لتيار المحافظين الجدد، (neoconservative وإختصاراً neocons) والذين كان أغلبهم قد خدموا في إدارتي الرئيس ريغان.
الأمر اللافت في السيرة السياسية للمحافظين الجدد هو أنهم ظاهرة لاتمت أساساً بصلة حقيقية للحزب الجمهوري، بل إن معظم المؤسسين لفكرهم ونهجهم كانوا من الرموز الليبرالية في الحزب الديمقراطي، إلا أنهم قرروا فجأةً في ستينيات القرن المنصرم التخلي عن كل مايمثله الحزب الديمقراطي من أفكار ليبرالية، وتبني فكر ونهج جديدين، يجعلان من التيار المحافظ التقليدي في الحزب الجمهوري يبدو كيسار حقيقي مقارنةً بطروحاتهم، ولعل هذا التحول المثير الذي مثل انعطافاً حاداً تمكن في مفاصل عديدة من اختطاف الحزب الجمهوري التقليدي لصالح أجندات مختلفة تماماً عن فكره ونهجه، هو بالتحديد مادفعني لإطلاق مسمى (العلمانيون الجدد) على ظاهرة تستشري بشدة في المشهد السياسي والفكري العربي، أغلب رموزها لايمتون للعلمانية بصلة حقيقية، بل إن علاقتهم بكل ماهو ليبرالي وعلماني، طارئة ومستجدة، تماماً كعلاقة المحافظين الجدد بالحزب الجمهوري في الولايات المتحدة.
(حداثيو الغفلة) الطارئون هؤلاء، كانوا قد ساهموا عن قصد في إطلاق وصف (القومجية) على أغلب المحسوبين على الخط القومي العربي، وهنا ينبغي الإعتراف بأمرين مهمين:
الأول هو أن هذا التوصيف كان موفقاً، فالفرق بين القومي والقومجي لايكمن فقط في إضافة الجيم والياء في نهاية اسم المصدر ليتحول بعدها إلى اسم مهنة يعتاش منها صاحبها، وهذه مأخوذة من اللغة التركية، فمن يعمل بالكهرباء يصبح كهربجي، ومن يُحَضِّر الكباب يصبح كبابجي، وهكذا، … وعليه فمن باب أولى أن من يعتاش على القومية يصبح قومجي، في تمييز مهم عن القومي، الذي يؤمن بالفكر القومي، ولا يعتاش عليه.
الأمر الثاني الذي لابد من الاعتراف به هو أن بعض من وقع عليهم توصيف (القومجيون) هذا يستحقونه، وعن جدارة، أنصع مثال عليهم هم زوار “أبو المجد”، السفير الكربلائي الذي خدم (ذات يوم مكفهر) سفيراً لدمشق في عمَّان، فقد كان يحلو لوفود القومجيين، خصوصاً من بعض أعضاء نقابة المحامين الأردنيين، أن يخلعوا عليه عباءة قشيبة، ويلتفوا حوله، يدبجون فيه ما عجز عنه “أبو تمام” في مديح “المعتصم” إبان فتح عمورية ..!! على مرأى ومسمع وامتعاض (نشامى) الاستخبارات الأردنية، الذين لم يكنوا للسفير وضيوفه وداً يوماً.
اليوم سأستعير من حداثيينا (الديجيتال) هؤلاء، تلك الصفة الموغلة في (الأنالوج)، لأطلق عليهم أيضاً وصف (العلمنجيون)، على وزن (قومجيون)، خصوصاً وأن علاقة هؤلاء بالعلمانية تشبه إلى حد كبير علاقة ضيوف السفير الكربلائي الراحل (القومجيون) بالقومية.
عشت الفترة الأطول من حياتي (مايزيد على ثلاثة عقود) في بلد علماني بالمطلق، هو الولايات المتحدة الأميركية، البلد التي تحمل صورة عملتها عبارة (نحن نثق بالله) ولكنها تفرض فصلاً مطلقاً بين الدين والدولة، وإذا كانت الولايات المتحدة بلداً محافظاً عموماً على المستوى الإجتماعي، فإن قوانينها على مستوى الولايات أو الإتحاد الفيدرالي تتبع نهجاً علمانياً صارماً، لايسمح لأي تداخل بين الدين وأي من سلطاتها المنفصلة الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية.
مالم يدركه (العلمنجيون) العرب هو أن العلمانية في الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً لم تقف يوماً ضد الموروث الديني ولم تتدخل فيه سلباً أو إيجاباً، ولم تحاول التدخل في عقائد الناس أو عباداتهم، ولم تقترح عليهم طرقاً أكثر حداثةً أو فهماً أكثر معاصرةً لمعتقداتهم، ولكنها في المقابل وضعت قوانين صارمة تسري على الجميع، ولا تستثني أحداً، فيما يتعلق بقضايا تعاملات الناس فيما بينهم، أو مع منظومات الحكم، تستمد شرعيتها الوحيدة من كونها مصادق عليها من سلطات تشريعية منتخبة ديمقراطياً، ومجالس تحظى بتمثيل حقيقي لكافة شرائح مجتمعاتها.
وكما كان نهج (المحافظون الجدد) طارئاً ليس في الحزب الجمهوري فقط، بل ربما في المشهد السياسي الأميركي كله، فإن (العلمانيون الجدد) كانوا أيضاً أمراً طارئاً في المشهد السياسي والفكري العربي، لايستند إلى فكر حقيقي، ونهج عملي، ولذلك فإن أغلب تجلياته كانت لاتعدو أن تكون شطحات أساءت لقضية العلمانية أكثر مما قدمت، بل إن بعض ارتكاساتها وارتداداتها كانت عنيفة جداً، وبالاتجاه المعاكس تماماً، وإذا كان للرئيس الراحل (بورقيبة) (شطحاته العلمانية) المبكرة، فإن ارتداداتها كانت ولاتزال واضحة أيضاً في التمكين الشديد لتيارات الإسلام السياسي التي لم تكتفِ بمحاولة الاستحواذ على المشهد السياسي التونسي، بل انها رفدت دوماً كافة التيارات الإسلاموية الراديكالية بمخزون بشري لايستهان به، هذا لاينفي طبعاً وجود أسباب عديدة ومهمة أخرى لذلك.
قد تثير هذه السطور تساؤلاً محقاً حول قدرة كاتبها على التصالح مع نظام علماني صارم في البلد الذي يعيش فيه، وانتقاده المستمر لبعض تيارات (المتعلمنين) في البلاد التي أتى منها ..!! والجواب على ذلك بسيط وسهل، وهو أن العلمانية في الولايات المتحدة، كمنظومات حكم، على مستوى المقاطعة والولاية والحكومة الفيدرالية، أو كمجتمع يتمثل بمجموعات بشرية وتيارات فكرية وأدبية وفنية متعددة، لم يتدخل يوماً في الجانب العقيدي والإيماني عندي أو عند أي مواطن أميركي، وأن ظاهرة (الإسلاموفوبيا) التي لايمكن إنكار ظهورها بين فينة وأخرى في مجالات إعلامية وفنية وفكرية عديدة، تبقى في إطار غالباً مايكون ذو توظيف سياسي، ولم تستطع يوماً أن تفرض نفسها في طريقة حياة أغلب الأميركيين، حتى الذين يوظفونها، مع ملاحظة أمرين مهمين:
الأول وهو أن أي مظهر معادي لأي ديانه أو معتقد يخضع لقوانين الكراهية وازدراء الأديان، وهي قوانين صارمة وملزمة.
الثاني وهو أن مجال الرد على أي من دعوات أو مظاهر الإسلاموفوبيا متاح وتضمنه قوانين حرية الرأي والاعتقاد السياسي.
العلمانية في الولايات المتحدة لا تتدخل في طريقة فهم الناس لمعتقداتها، ولا تأخذ على عاتقها مهمة (تطوير) عقائد الناس بما يجعلها (ملائمة لروح العصر)، هذه ليست مهمة منظومات الحكم، وحتى النخب الثقافية والفكرية ورغم كل ما تتمتع به من حرية في الرأي والنشر، تحاول أن تتعامل مع هذه القضايا بحساسية حريصة، على العكس تماماً من (علمانيو الغفلة) العرب، الذين يصبحون بين لحظة وأخرى أحباراً في علوم الدين يريدون أن يُقَوِّمُوا للناس عقائدهم، فيرفعون ويخفضون، ويُقِرُّونَ ويرفضون، وَيُقَرِّبون ويباعدون، بعضهم تذهب به نفحات الإلهام لِيُّقِرَّ مدرسة القرآن ويرفض مدرسة الحديث بأكملها، وبعض يرفض الأحاديث التي نقلها رواةٌ بعينهم، بل تصل حمى الإلهام عند بعضهم لنسف مدرسة فقهية كاملة من أساسها في الوقت الذي لايدرك فيه بعض هؤلاء الفرق بين العقيدة والفقه أو بين السيرة والسنة مثلاً.
التساؤل الآخر المحق الذي قد تثيره هذه السطور هو هل من حق النخب الفكرية والسياسية أن تتدخل في عقائد الناس ومعتقداتها وطرق تدينها؟ والإجابة عندي بسيطة ومباشرة، فالأصل هو أن من حق أي إنسان أن يتكلم في أي أمر يريده، ولكن هذا يطرح سؤالاً ربما يكون أكثر أهميةً واستحقاقاً، وهو: هل من المفيد دوماً أن تتم ممارسة هذا الحق في كل الأمور بمافيها مناقشة عقائد الناس ومعتقداتهم؟ خاصةً وأن هذا النقاش يطرح إشكاليةً مهمة ومعقدة، وهي أن العقائد والأديان تقوم أساساً على مُسَلَّمات، وهذه المُسَلَّمات ليست دوماً قابلة للنقاش عند الجميع، فلماذا لانترك ما لله لله، وما لقيصر لقيصر؟ ولماذا هذا الإصرار على الدخول في علاقة يفترض أنها بين الإنسان والخالق؟ ومالذي يضير (النخب) في أن أكون سلفياً أو أشعرياً؟ صوفياً أم أصولياً؟ ولماذا يجب علي أن أختار بين “إبن تيمية” و “إبن عربي” ؟ أو بين “محمد شحرور” و “ناصر الدين الألباني” ؟
هل نصل إلى يومٍ نعتقد فيه أن الناس، كل الناس، أحرار في عقائدهم ومعتقداتهم، وإن أراد بعضهم تغليب مدرسة النقل على العقل، فهذا شأنهم بالمطلق، ولايجب أن يعطي ذلك الحق لأي كان لاتهامهم بأنهم أقل عقلاً ممن غلبوا مدرسة العقل على النقل، وبالمقابل فلايعطي الحق لأتباع مدرسة النقل أن يتهموا أتباع مدرسة العقل بالهرطقة والسفسطة؟
والسؤال الأخير الذي تطرحه سطوري هو:
هل تمكنا من إيجاد حلول لكل المشاكل السياسية والإجتماعية والإقتصادية التي تحيط بنا لنتفرغ لمناقشة عقائد الناس؟
جواب (العلمانيون الجدد) لايحتاج لكثير ذكاء، وهو أنه مالم نحل الإشكاليات المتعلقة بالدين في العقل العربي فلن نتمكن من إيجاد أي حلول لأية مشكلات.
وتعليقي على جوابهم هو التالي:
كتب المفكر المغربي “محمد عابد الجابري” موسوعة “نقد العقل العربي” التي أثارت جدلاً كبيراً، ومن أبرز من تصدوا لها المفكر الوجودي السوري “جورج طرابيشي” … خصص طرابيشي خمساً وعشرين عاماً من حياته لدراسة موسوعة “الجابري” والرد عليها في موسوعته من خمسة مجلدات “نقد نقد العقل العربي” …. فكم خصص علمانيو الغفلة العرب من حياتهم لدراسة علوم يتصدون لها ويدحضونها بكل قوة؟
أترك الجواب للقارئ …
ملاحظة: كان المفكر الرصين جورج طرابيشي من أهم من نعوا المفكر محمد عابد الجابري عند رحيله.
رائع صديقي متفقون…
الخوض في قضايا العقيدة الاسلامية على تنوع مدارسها سلبا وايجابا مع وضد هو هروب من مواجهة مشاكل الواقع. والوقوع في مطب تسعير “الحروب الدينية التفسيرية للاسلام”…
ونبقى في الضياع العربي عمليا…
دمت صديقي.
كل الشكر والتقدير لك صديقي العزيز.
نعم ، العقائد كلها، أمر شخصيتي بحت، لايحق لأحد أن يتدخل فيها، ولكن من حق وواجب منظومات الحكم وضع قواعد قانونية تضمن حق الجميع في ممارسة معتقداتهم، دون أي افتئات على حقوق الآخرين.
سلمت ودمت دوماً.