الأسد، من بلوغ الحلم إلى جني ثماره
الاستماع للمقال صوتياً
|
واشنطن – مقال الرأي
بقلم نشمي عربي
عندما كتبت في نوفمبر الماضي مقالاً بعنوان “خطر وفرصة وحلم سياسي” لم أكن أقصد الحلم بمعنى الرؤيا، بل الحلم بمعنى البلوغ (السياسي طبعاً)،
مستدلاً بالموقف الرسمي السوري مما يجري في غزة وحولها منذ السابع من أكتوبر الماضي، والذي كان مغايراً تماماً للنهج الرسمي السابق على مدى سنوات، فهو لأول مرة ينجح في الإبتعاد عن العاصفه، بل وكأنه نأى بنفسه تماماً عن كل تداعياتها التي توقعت المقالة أنها رغم كل مخاطرها قد تحمل فرصةً ما، أو فرصاً، وللجميع، الأمر الذي على مايبدو أن النظام عرف كيف يستفيد منه لأبعد الحدود.
لاأستطيع أنا أو غيري سوى أن نخمن في معنى هذا التحول اللافت في موقف نظام اعتاد أن يبحث عن العواصف، ليضع نفسه في عينها، ولكنه هنا يفاجيء الجميع بموقف منضبط تماماً ومحسوب بدقة متناهية، في عدم الانسياق (حتى إعلامياً) وراء طوفان أكتوبر أو تداعياته، وإن كنت أرجح أن نصيحة روسية صارمة كانت وراء الموقف السوري المستجد بعدم التدخل والابتعاد بالمطلق، إلا أن الأمر تزامن مع العديد من المشاهد اللافتة الأخرى التي لاتقل في دلالاتها عنه، وكأنها تشكل معه وبشكل مُطَّرِد مشهداً واحداً مثيراً جداً للاهتمام، سأحاول رصده في هذه السطور، دون التدخل فيه، تاركاً للقارئ أن يحكم عليه من منظوره وحسب قناعاته.
لم يكن حضور الأسد أعمال القمة العربية الإسلامية الاستثنائية في الرياض نوفمبر/تشرين الماضي هو أول تطور في العلاقات السعودية السورية بعد قطيعة طويلة، فقد سبق ذلك حضوره القمة العربية في جدة أواسط مايو/أيار من العام نفسه، وبين الزيارتين كان هناك حراك دبلوماسي لم يتوقف بين الرياض ودمشق، كان بعضه فقط معلناً، بالتوازي مع العديد من اللقاءات المتبادلة الغير معلنة على المستوى الاستخباري، لم تتوقف حتى خلال القطيعة الطويلة بين البلدين مابعد عام 2011، ومع الصعود المطرد لموقع الأمير محمد بن سلمان في المملكة، كان واضحاً أن السياسة السعودية اتجاه الوضع السوري قد بدأت تأخذ منحىً مختلفاً جداً عما سبقه، ربما يراه البعض أكثر واقعيةً، ولكنه بكل تأكيد أقل رغبةً في الانخراط بالشأن السوري الداخلي، للدرجة التي أضحت فيها تصريحات كالتي كررها الوزير “الجبير” مرارا، مثل: (بشار الأسد سيترك السلطة بحل سياسي أو بالقوة) ضرباً من الماضي الذي لاتشعر المملكة اليوم بأي حنين له.
ربما سيكون مفيداً لفهم المقاربة السعودية الحالية للمعضلة السورية الاستدلال بمقاربتها للقضية الفلسطينية، فرغم الاختلاف الكبير بين العقدتين المستحكمتين، إلا أن هناك سمةً مهمة مشتركة للمقاربة السعودية الجديدة لهما، تقوم بالمجمل على العناية بتنمية الجوانب الحياتية والمعيشية اليومية للأطراف المعنية، وإيجاد حلول مستدامة لها، تشارك فيها كل أطراف النزاع، وبرعاية سعودية، والبناء عليها لخلق واقع معيشي جديد تصبح فيه القضايا السياسية الشائكة أقل مركزيةً لدرجة يمكن الالتفاف حولها وربما تجاوزها، كونها لم تعد ذات صلة كبرى (irrelevant)، على طريقة تحويل الأزمات إلى حلول، أو على الأقل مشاريع حلول.
بغض النظر عن مدى واقعية هذه المعادلة أو مدى فرص نجاحها، فإنها اليوم (وبمفردها) تشكل حجر الزاوية الذي تقوم عليه مبادرة المبعوث الدولي للشأن السوري “غير بيدرسون”، والتي باتت محصورة في قضايا فرعية ذات أبعاد حياتية ومعيشية، مع بعض الكلام العمومي حول صيغة مقبولة ما لمشاركة (الإدارة) حتى لا أقول (الحكم)، بين النظام وبعض وجوه المعارضة، في تجاوزٍ أكيد، ومرةً وللأبد، لقضية هيئة الحكم الإنتقالي كما وردت في القرار الأممي 2254، والتي ستضمن عملية انتقال سياسي، لم تعد موجودةً حتى بين السطور في كلام “بيدرسون”، العلني منه، أو خلف الأبواب المغلقة في اجتماعاته مع هيئة المفاوضات التي تمثل المعارضة، بمافيها اجتماعات الأسبوع المنصرم في بروكسل.
أعود للمقاربة السعودية الجديدة للشأن السوري، والتي قد لاتكون مرضية للجميع في رؤيتها للحل في سورية، إلا أنني لازلت أعتقد أنها محكومة بقضيتين أساسيتين:
الأولى توجس شديد من أن أي عملية تغيير سياسي حقيقي في سورية قد تكون في صالح صعود تيار الإسلام السياسي، بعد أن نجح النظام في دمغ غالب القوى المعارضة له بصبغته.
الثانية هي التموضع الحقيقي لسورية في صراع النفوذ الإقليمي مع إيران، وبدرجة أقل التنافس مع تركيا.
الثابت تماماً أن قضيتي الإسلام السياسي والتمدد الإيراني تشكلان هاجساً جدياً للمملكة عبرت عنه دوماً بوضوح ودون مواربة، يشترك معها في هواجسها تلك كل من الإمارات والأردن ومصر، من هنا فسيكون طبيعياً جداً أن هذه الدول هي التي تدخلت مع الإدارة الأميركية، مجتمعةً أو كلاً على حدة، من أجل عدم تمرير قانون مناهضة التطبيع مع النظام، بحجة إعطاء فرصة لجهودها في (عزل) النظام عن إيران، مما يصب في المصلحة الأميركية، ويعزز فرص نجاحها في فرض حل إقليمي يقوم على مبدأ حل الدولتين، الذي ترفضه اليوم كل من إيران وإسرائيل، على الأقل علناً.
السؤال المفصلي هنا يتعلق بمدى حقيقة أن دمشق وصلت فعلاً إلى نقطة النهاية في علاقتها بطهران، ومدى استعدادها للتجاوب مع الجهود العربية في الفصل بين الحليفين المزمنين، ولأن هذا السؤال معقد جداً، فإن الإجابة عليه ربما تصح فيها مجموعة من الاحتمالات:
الأول هو أن النظام فعلاً وصل لمرحلة يشعر فيها أنه يستطيع الاستمرار دون الاعتماد على الدعم الإيراني، وتعفيه من التدخلات الإيرانية في كلّ شيء، ومن عدم قدرته أو ربما رغبته بالوفاء بتعهداته المالية والاقتصادية لطهران، وهذا الاحتمال في حال وروده يدخل الأسد دون أدنى شك في دائرة الخطر الشديد من ناحية طهران، وأدواتها في المنطقة، خصوصاً أن بعضها موجود على أرضه عسكرياً وأمنياً.
الاحتمال الثاني هو أن دمشق وطهران تشعران بحجم الضغوط عليهما واتفقتا على المضي في لعبة الاستجابة للمطالب العربية في سحب الأسد من تحت العباءة الإيرانية، ولو تكتيكياً، دون أن يغير ذلك من حقيقة متانة الحلف بينهما استراتيجياً، وهذا الاحتمال يضع علاقات الأسد المتعافية مع العرب في دائرة الانتكاس.
الاحتمال الثالث هو أن طهران التي عودتنا على ميكافيليتها وواقعيتها الشديدتين، تلعب لعبة مزدوجة، تكون فيها لعبتها مع الأسد جزء من لعبة أكبر وأهم مع واشنطن، تقبل فيها طهران أن تتجرع الكأس المر الذي تعودت عليه، وتقنع بحدود لدور إقليمي أقل طموحاً، ترسمه واشنطن وتوافق عليه تل أبيب، تتخفف فيه طهران من أدوار تم استنفاذها، ولن يضيرها خروج القائمين عليها (من مسؤولي حرسها الثوري واستخباراتها) من الصورة كلياً، بما يجعلها أقل إغراءً بالاستهداف من قبل “ترمب” في حال عودته للبيت الأبيض نهاية العام، هذه اللعبة (إن وجدت) قد تتطور في مرحلة قادمة لتقايض طهران واشنطن على الأسد نفسه.
مهما يكن الأمر، فإن النظام بدوره أعطى العديد من المؤشرات التي قد يمكن تفسيرها على أنها استجابة لهذا التوجه العربي، وسمح بنشر وتداول سرديات تشي بانقضاء شهر العسل مع طهران بل توحي بالتوجه نحو قطيعة معها، ولكنها بقيت كلها في حدود اليوتيوب والتيكتوك التي لن تضير طهران، ويستطيع النظام في أي وقت، وبكل سهولة، التملص منها واعتبارها لاتمثل الموقف الرسمي السوري.
السرديات التي تحمل لغة جديدة لم يألفها السوريون لم تكن محصورة في قضية العلاقة مع إيران، بل تجاوزتها للغة جديدة تماماً في الحديث عما مرت به سورية منذ 2011, سواء في المقاطع اليوتيوبية نفسها أو حتى في مسلسلات تليفزيونية كاملة، كان كتابها ومخرجوها وكل طواقم تمثيلها محسوبون دوماً على النظام، ويتبنون مواقفه وأفكاره، فباتوا يتحدثون بلغة قررت فجأةً التخلي عن نظرية المؤامرة الكونية ولم تتورع عن تحميل أطراف في النظام مسؤوليات مهمه ولافتة لما عانى ويعاني منه السوريون، وربما تكون منفتحة في مرحلة ما على مسار قانوني لمساءلتهم ومحاسبتهم.
كل هذه المشاهد مجتمعةً، إذا شئنا النظر إليها بطريقة بانورامية قد تشي بمشهد قادم، لايزال قيد التشكل بحذر، ربما يحمل نقلةً مهمةً في الموضوع السوري، قد يراها البعض ضرورية ومستحقة، خصوصاً إذا تمكنت من إيجاد حلول قطعيه وجدية لقضايا مثل مصير آلاف المعتقلين، وعودة الملاحقين، وتغيير حقيقي في الواقع المعيشي والحياتي لملايين السوريين، في الداخل والخارج، وتعويض المتضررين، ومحاسبة كل من تثبت مسؤوليته الجنائية بحق سوريين آخرين.
هذا لاينفي أنه سيكون هناك فريق سوري آخر سيرى في كل ذلك (إذا تم تحقيقه أصلاً) مجرد التفاف على قضايا رئيسية وأساسية مهمه، في مقدمتها قضية الإنتقال السياسي، المختلف عليها أصلاً، والتي وإن كان القرار الأممي 2254 قد نص عليها، فإنه ترك إطار تحقيقها فضفاضاً وفي إطار هيئة حكم انتقالي مشتركة بين النظام والمعارضة، فهل سيحمل المشهد القادم صور بعض الوجوه المعارضة تتفاوض مع النظام في دمشق على تشكيل هيئة حكم انتقالي بمشاركة الطرفين؟ لايكون فيها انتقالياً فعلاً سوى اسمها! لأنها لن تتطور لعملية انتقال سياسي، مستندين إلى أن تحركهم هذا يفي ببعض متطلبات نص ال 2254 ؟ والأهم من ذلك أنه في حدود المتاح عربياً وإقليمياً ودولياً؟
وإذا تم تحقيق كل ذلك، فماذا عن السوريين الذين يؤمنون وبإصرار أنه لن يكون هناك حل حقيقي بوجود الأسد رئيساً؟ ويعتبرون أن الأساس الأول لأي تغيير جدي يكمن في إسم الرئيس؟
هل يفاجئهم النظام في حل معضلة اسم الرئيس بأن يطرح بدل الاسم … أسماء …؟
أعلم أن المشهد اليوم سوريالي بامتياز، ويزيد في سورياليته وتعقيده حقيقة مهمة لايمكن تجاهلها، وهي أنه إذا كانت بعض دلالات بلوغ سن الحلم السياسي عربياً وإقليمياً تستند إلى النهج الجديد في التعامل الرسمي مع طوفان أكتوبر وارتداداته، فإنها لا تستند في كل القضايا السورية الأخرى الأكثر إلحاحاً إلى أي شيء حقيقي ومادي، فالدول والأنظمة في النهاية لاتعبر عن نهجها وسياساتها بمسلسل تلفزيوني، أو مقطع يوتيوبي، أو تصريح خارج عن السياق المعتاد لبقايا فنان ليته اكتفى بمقالب غوار، مهما بلغت جرأة طروحات هذه المسلسلات والمقاطع والتصريحات المستجدة، واحتمالات الانكفاء إلى مادون سن الحلم السياسي مازالت قائمة، وكل ماهو على الأرض يدعمها، لا أَدَلَّ عليها أكثر من كلمة الأسد في اختتام اجتماعات اللجنة المركزية لحزب يفترض أنه (مع الاحترام للندرة النادرة من بعض رجالاته) صار شيئاً من الماضي، ورمزاً لفترة لا يحن السوريون إليها، هذه الكلمة أمس أعادت السوريين إلى خطاب 2011 نفسه، الذي كان مؤسساً للعشرية البغيضة التي تلته، والتي تتطاول اليوم لعشرية ثانية، ما انفك السوريون جميعاً ينزفون جراء جراحاتها المؤلمة.
نعم اخ نشمي عربي. ان هناك استدارة في موقف النظام السوري. ظهر بوضوح بعد طوفان الاقصى. السلبية والامتناع عن التصريح بأي شكل سلبا وايجابا. وكذلك احاديث الميديا من اعوان النظام التي تطال الدور الايراني في سوريا، كذلك الاحتضان العربي للنظام. وخفة حدة الموقف الامريكي منه…
السوريين في داخل سوريا وخارجها ينتظرون الخروج من حالة الموت البطيء او السريع والعودة الى حياة تشبه حياة البشر…
اضم صوتي لصوت الاخ نشمي عربي .بالسؤال:
هل هناك امل بتغير ايجابي قادم؟.
احمد العربي.
صدقت صديقي العزيز ، فالسوريون أحوج مايكونوا اليوم لتجاوز هذه الأوضاع التي أنهكتهم جميعاً، الأمل يجب أن يبقى دائماً موحوداً، ولكن علينا دوماً تحري دلالاته .
كل الشكر والتقدير لمرورك الكريم صديقي الغالي.
النظام الأسدي وتركيبه قائم على التلاعب بالتناقضات، والبيع والشراء لكل شيء حتى يضمن بقاء الكرسي بيد الأسد، بلا أية مسؤوليات أو اخلاق .
كل تلاعباته والعابه للوصول للفاعل الأمريكي لمرضى عنه ، أما الموقف السعودي والعربي عموما فهو ضد ثورات اي شعب ، وخاصة في الربيع العربي ، وخاصة في سوريا خوفا من الرياح نحو عواصمهم ، العشرية السورية ليست سوداء بل ملونة بدم مليون شهيد وقتيل، ومليون معتقل وزيادة لازال يخفي منهم ما يقارب ٣٠٠ الف بلا أثر، بروبيغاندا اعوان النظام وابواقه لن تكون مفيدة بعد الدم والقتل البراميلي، سيبقى بعض السوريون يتابعون الحفر بالصخر لخلع هذا التأبيد ، والشعوب لا تحلم بل تعمل وتضحي حتى لحظة مناسبة ، لن يراها السوري بعيدة ، مهما تكالبت الظروف والبيع والشراء بالوقت .
النظام بكل تأكيد وكما تفضلت يتقن فن اللعب على كل التناقضات الإقليمية والدولية، وسيكون من المفيد جداً لمعارضيه أن يدركوا هذه التناقضات ويحاولوا هم أيضاً الاستفادة منها، أو على الأقل التخفيف من آثارها السلبيه في جهودهم.
كل الشكر والتقدير لتعليقك المهم والغني.