أرثوذكسية الكرملين الجديدة
الاستماع للمقال صوتياً
|
واشنطن – مقال الرأي
بقلم مرح البقاعي
إثر إعادة انتخاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لدورة رئاسية جديدة هي الرابعة، أصبح الخوف من رؤيته الفولاذية الباردة للقضايا السياسية والدولية التي تطغى على نهجه في الحكم مشروعاً لدى جيران روسيا في الغرب الأوروبي، وبدا السؤال عما إذا كنا سنشهد استقراراً مقلقاً للدكتاتوريات التي رافقت حقبة الحرب الباردًة أكثر إلحاحاَ.
المتابعون للشأن الدولي العام، والروسي بشكل خاص، يرون في الاستقطاب الحاد بين معسكرين كبريين حالة من حرب باردة ثانية وعودة إلى صراع العملاقين القابعين في الشرق والغرب بمعايير جديدة وبتفوّق واضح هذه المرة للدوغما الروسية التي تتجلى في العقيدة البوتينية.
من نافلة القول إن الشعب الروسي أصيب بحالة من انعدام الوزن والتشظّي إثر انهيار الاتحاد السوفييتي والظروف التي رافقت ذاك الانهيار الكبير، ناهيك أن معظم المواطنين الروس يعتقدون اعتقاداً جازماً أن نموذج الديمقراطية الغربية لا يتفق بالمطلق مع قيمهم وتقاليدهم المتوارثة، والقوميون المتشددون منهم ينظرون بعين الريبة والامتعاض إلى الممارسات الديمقراطية الطفيفة التي تجلّت في بلادهم بُعيد انهيار الاتحاد السوفييتي وقبيل صعود نجم بوتين، بل هم يقرنون تلك الممارسة الديمقراطية بالفوضى والانحطاط الثقافي، وبالنتيجة هم مستعدون للتضحية بالحريات والديمقراطية من أجل سيادة النظام وتثبيت الاستقرار.
استطاع بوتين أن يرسّخ دعائم حكمه بما اتسم به من نزعة النوستالجيا إلى الحقبة الزمنية التي سادت فيها روسيا كقوة عظمى في العالم.
يرى الروس أن النأي عن مظاهر وتطبيقات الديمقراطية – كما رسم الغرب خطوطها العريضة ويعيش فصولها- إنما هو حفاظ وحماية للبنية الاجتماعية والموروث التاريخي للشعب الروسي الذي يعتزّ به الروس أيما اعتزاز، بل ويقدّمونه على نظام سياسي منفتح على الاحتمالات والتقلبات التي تحملها رياح الممارسات الحرّة.
من هذا المنطلق استطاع بوتين أن يرسّخ دعائم حكمه بما اتسم به من نزعة النوستالجيا إلى الحقبة الزمنية التي سادت فيها روسيا كقوة عظمى في العالم، ويعزّز هذا الشعور القومي المضطرم.
فالإحساس العميق بالحنين إلى روسيا المتفوّقة والقوية كان دائماً يميز رؤية بوتين من خلال دفاعه المتواصل عن القيم الروسية والرموز التقليدية وحمايتها من هجمة الثقافة الغربية والعولمة. أو بالمعنى الأدق للكلمة، فإن بوتين قد انصرف إلى استرجاع الأيديولوجيات الغابرة وإنعاش الفكر القومي الروسي بمواصلة وإصرار.
معظم القوميين الشوفينيين الروس يعتقدون أن دولتهم وجدت لتكون إمبراطورية تضرب جذورها في التاريخ البعيد. وبالنسبة إلى هذه الطبقة السياسية والاجتماعية التي تؤمن بالعودة الحتمية للإمبراطورية الروسية تعتبر العديد من الجغرافيا المجاورة جزءاً لا يتجزأ من أرض هذه الإمبراطورية، بل وترى أن أوكرانيا هي جزء من هذا المفقود الذي يجب استعادته.
وفي ضوء هذه الدوغمائية السائدة فإن مناقشة مستقبل روسيا لن تكتمل دون إدراك أن روسيا تحمل تحت جناحيها مهمة “أرثوذوكسية” يجب إتمامها وحمايتها والدفاع عن بقائها. وهذه المهمة ستكون المرجعية والمستند العقائدي لتبرير السياسة الخارجية وسلطة الدولة، بل وتشكّل أيضاً جامعاً قوياً يلتف حوله أفراد الشعب بوصفها أيديولوجيا تربطهم بقوة بدولتهم وتمنع الخروج عن صراطها. وهذا ما نسج عليه بوتين بحرفية ودهاء سياسي لشرعنة جلّ مغامراته السياسية والعسكرية معتمدا على مرجعية الكنيسة ومباركتها، ومستعيناً بنفحة الحس الشوفيني المتعاظم.
لم يخف بوتين هذه النزعة في أدائه الرئاسي وقراراته الانفرادية، وها هي الكنيسة الأرثوذكسية في موسكو تصدر تصريحا بعد أسبوعين من قرار بوتين إرسال قوات إلى سوريا عام 2015 لدعم رأس النظام السوري في هجمته على شعبه خلال أحداث ثورة التغيير الشعبية، وتعبر فيه عن دعم الكنيسة المطلق لقرار الرئيس بوتين شنّ غارات جوية في سوريا، بل وتصف هذا التدخل الأجنبي في دولة مستقلة وذات سيادة بصفة “المعركة المقدسة”!
بوتين يرى في روسيا النموذج الأخير في العالم الذي يحمل القيم التقليدية ويدافع عنها من “غزو الفساد القادم من أميركا والغرب” كما يروّج داخلياً لحصد الشعبية والتأييد. وهكذا، وبعد مرور ربع قرن على انهيار الاتحاد السوفييتي يبدو أن الصدام بين قيم الغرب وثوابت العقيدة الروسية يعود إلى الواجهة من جديد، أكثر سخونة والتهاباً، ولاسيما في مواقع تضارب المصالح في قلب الشرق الأوسط الذي يصبّ غليانُه السياسي الزيت على النار المستعرة أصلاً.
فصل المقال يكمن في حيثيات زعامة بوتين لروسيا الاتحادية، وقوة الدوغما الجديدة التي هي خلطة عقائدية من الدينيّ والقوميّ، حيث يعمل بوتين باستمرار على تحقيق الإجماع الشعبي والالتفاف حولها بهدف دعم سلطته واستمرار طبقته الحاكمة في إعادة إحياء الإمبراطورية والتسليم للإمبراطور الجديد بغير منازع أو معترض أو مجادل.
هكذا ستعكس البوتينية بشكل ثابت مفهوم النظام الأوليغاركي الأحادي الذي يمثّل مصالح مجموعات بعينها تنتمي بمنافعها إلى الدائرة الضيقة للرئيس، وهذا النظام يقوم على آليات السلطة الرأسية العمودية، ما يعني ببساطة مجموعة من الأوامر المطلقة تنطلق مباشرة من الأعلى نحو الأسفل.