عقيدة بايدن.. وَحْيٌ من فريدمان أم من العرب؟
الاستماع للمقال صوتياً
|
واشنطن – مقال الرأي
مرح البقاعي
أبى الصحافي الأميركي الشهير، توماس فريدمان، الذي يتابعه الملايين على موقع الصحيفة اليسارية العريقة نيويورك تايمز لقراءة مقاله الأسبوعي، إلا أن يتوّج السنة الأخيرة من عهد الرئيس جو بايدن بصياغة رؤية استراتيجية سياسية، نصح الرئيس باتباع مساراتها، وأطلق عليها – مجازاً – مسمى ’عقيدة بايدن’.
فريدمان بدا لي في هذا المقام بوضع ’الملقّن’ على خشبة مسرح، جالساً في كوة صغيرة، لا مرئياً، يكرّر سكريبت الحوار المسرحي الطويل على مسامع البطل، رافداً ذاكرته الهرمة لاستحضار ما سقط عنها من تفاصيل النص.
ليس في الاستعارة السابقة لمشهد المسرح وبطله أي تقليل من دور الملقن فريدمان أو المسّ بطاقات الرئيس بايدن الذهنية لا سمح الله، إنما للتأكيد على رغبة فريدمان في أن يخلّد ذكرى بايدن وإرثه السياسي بعقيدة تحمل اسمه وبصمته، تماماً كما كان للرئيس الأسبق باراك أوباما ما يدعى بـ ’عقيدة أوباما’.
جو بايدن الذي صرف ثماني سنوات من حياته المهنية نائباً لأوباما، لابد أيضا لإرثه السياسي من خاتمة دامغة وجزلة تكون خيراً من الفاتحة الذي استهلّ بها رئاسته بانسحاب فوضوي ومخزي من أفغانستان، وبسحب تنظيم الحوثيين في اليمن من قائمة الإرهاب الدولي.
وإذا افترضنا أن الرئيس بايدن تلقى الكُرَة، وتبنّى بالفعل الأفكار الجديدة التي يحاول فريدمان أن يلقنها له، فهل لنا أن نسأل من هو صاحب البصمة والأثر الأول في هذه العقيدة، وما هي الظروف التي دعت بايدن لاعتناقها والسير بمسارها، وما علاقة ما طُرح في بنودها بأحداث الشرق الأوسط والمحادثات مع المملكة العربية السعودية التي توقفت إثر عمليات 7 أكتوبر – المحادثات التي هدف منها الطرفان السعودي والأميركي إلى وضع مشروع للسلام في الشرق الأوسط، متكامل، عادل، وتنموي، تقوده المملكة العربية السعودية؟
حتى نستطيع الإجابة على هذا السؤال لابد من تفنيد بنود الاستراتيجية الجديدة المقترحة للرئيس بايدن، بين قوسين (عقيدة بايدن).
المحور الأول في العقيدة يركّز على الدور الذي يجب أن تنجزه الإدارة الأميركية في تصفية وكلاء إيران في المنطقة، أي الأذرع العسكرية التي يستخدمها الحرس الثوري الإيراني لتنفيذ مشاريعه الخبيثة العابرة للحدود الهادفة إلى النيل من استقرار واستقلال دول الجوار العربي. فريدمان يرى أن مواجهة واشنطن مع هذه الميليشيات يجب أن تكون حاسمة وقاضية.
في هذا المحور نستطيع أن نجزم بأن التصدي لنظام الاستبداد الطائفي في طهران كان همّاً يشغل أولي الأمر في غير دولة عربية جارة لإيران، تلك الدول التي استهدفتها الميليشيات العابرة للحدود بهجمات طالت منشآت استراتيجية حيوية في الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، هذا ناهيك عن إثارة الفتن والنزعات الطائفيّة في المجتمعات العربية لخلق مناخ من عدم الاستقرار والبلبلة، كما حدث في البحرين على سبيل المثال لا الحصر. وهل يغفر التاريخ أن الـرئيس بايدن قام بسحب منظومة صواريخ الباتريوت الدفاعية من المملكه العربية السعودية في أوقات حرجة كانت الدول الخليجية المستهدفة، الحليفة لواشنطن، بحاجة إلى وقفة من الحليف صادقة، ومشاركة فعلية في الدفاع عن أمنها واستقرارها!
المحور الثاني للعقيدة أوجزه فريدمان في ’مبادرة دبلوماسية أميركية غير مسبوقة للترويج لقيام دولة فلسطينية، والآن’، كما ورد في نصه.
حقيقة الأمر أن ’حل الدولتين’ لإنهاء عادل للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، هو مبدأ تبنّته الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ عقود، جمهورية كانت أم ديمقراطية. لكن الفرق يكمن في التوقيت والظرف المصاحب. فحل الدولتين هو مسار أساس في المشروع السعودي للسلام سبق أن طرحه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان على الملأ في مقابلته التلفزيونية الموسعة مع قناة فوكس الأميركية، كما وتعهّد برعاية ودعم الاعتراف العالمي بالدولة الفلسطينية، رسمياً وشعبياً، في كل مناسبة تتناول السلم في الشرق الأوسط. وما تأكيد فريدمان على هذا الأمر إلا اتساقاً مع الطرح السعودي، وقد جاءت الحرب على غزة لتسرّع من وضعه على قائمة أولويات البيت الأبيض كحاجة ملحّة لتحقيق أمن المنطقة والعالم.
أما في المحور الثالث، فيتحدث فريدمان عن ’تحالف أمني موسّع واستراتيجي مع المملكة العربية السعودية، والذي قد يتضمن التطبيع السعودي للعلاقات مع إسرائيل’. ويتابع: ’إذا تمكنت إدارة بايدن من التعامل مع المحاور الثلاثة بجدية وتصميم – وهو أمر ليس بالسهل – فإن عقيدة بايدن يمكن أن تكون أوسع عملية لإعادة ترتيب المشهد السياسي في المنطقة كما لم يحدث منذ معاهدة كامب ديفيد في العام 1979.
من نافلة القول أن التوافق السعودي- الأميركي الذي جاء نتيجة محادثات على أعلى المستويات السياسية والعسكرية والأمنية بين البلدين على امتداد العام 2003، قد أنتج مشروع اتفاق متكامل أحد بنوده هو اتفاق دفاعي أمني مشترك بين البلدين.
ولا أسمي هذا الاتفاق ‘صفقة’ على طريقة ترامب، بل توافقاً مستعاداً يمثّل عودة للعلاقات الثنائية التاريخية والاستراتيجية بين العاصمتين، الرياض وواشنطن، إلى مسارها الطبيعي بعد أن انحرفت عنه في السنوات الأولى من إدارة الرئيس بايدن، وهو الذي تنبّه للخطأ الذي ارتكبه بالابتعاد عن الشركاء التاريخيين في الخليج العربي وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية، وهو من قوّم هذا المسار وعاد من جديد إلى التعاطي الصحي مع الحليف السعودي الذي تمتد الشراكة معه لعقود ثمانية.
التصحيح الذاتي الذي قام به الرئيس بايدن على المبدأ الحوكمي الأميركي (Checks & balances)، سيساعده في استعادة خسائره من الدعم الشعبي المتراجع من جهة، ومن المؤسسات الرسمية لإدارته من جهة أخرى، والتي تفضّل أن تبقى السياسات الخارجية لواشنطن متوازنة وثابتة، وبخاصة لجهة عدم التخلي عن الحلفاء والأصدقاء القدامى. وقد قالها الرئيس الأميركي الراحل، ريتشارد نيكسون: ’إن تخلينا عن أصدقائنا باستمرار فستبقى أميركا بلا أصدقاء’.
من هذا المنطلق، فإن المسؤولين ديمقراطيين وجمهوريين، ينظرون إلى هذا التوافق بعين الرضى والحاجة إلى عودة العلاقات المشتركة بين المملكة وأميركا إلى وضعها الطبيعي، وأن الحلفاء في الخليج وأمنهم وأمن المنطقة إنما يلتقي مع الأمن القومي الأميركي ومصالح أميركا الطويلة المدى في الشرق الأوسط.
ولي العهد السعودي كان حاسماً في ضرورة قيام الدولة الفلسطينية، دولة مستقلة وذات سيادة يتمتع شعبها بكافة الحقوق المدنية والسياسية. وهذا التوجه ثابت للمملكة ولن يحيد. والأمر سيخضع للمفاوضات حين تضع الحرب أوزارها.
أما عن الطرف الإسرائيلي الممانع لفكرة إعلان دولة فلسطين، فإن ملف التحقيق الذي فُتح في تل أبيب لمعرفة الأسباب وتحديد المسؤولين عن التقصير الاستخباراتي الذي أدى إلى الاختراق الأمني الأعظم في تاريخ الدولة منذ تأسيسها وشهدناه في أحداث 7 أكتوبر، سينتهي بسقوط حكومة نتنياهو سقوطاً شعبياً مدوياً، وسيكون نهاية لمحور التطرف والكراهية الذي يحكم الائتلاف الحكومي في وزارة الحرب الإسرائيلية. ومن هنا ستبدأ مسيرة الدولة الفلسطينية المستقلة نحو النور، وليس عيباً أن تكون ولادة الدولة عبر مفاوضات أممية تنتهي باعتراف دولي بفلسطين.
في هذا السياق ربما يتعيّن على الرئيس بايدن وعراب الحزب الديمقراطي المفكّر توماس فريدمان، وضع خارطة طريق لتنفيذ عقيدة بايدن على مراحل، بحيث يتم مبدئياً إبرام اتفاق ثنائي بين واشنطن والرياض في موضوعين أساسين: الأول يتعلق باتفاق دفاعي استراتيجي مشترك وطويل الأمد، والثاني تنفيذ مشروع المفاعل النووي لأغراض مدنية تساهم في إنشائه الولايات المتحدة، وهو حق مشروع للمملكة التي تسير في عملية تنمية شاملة وغير مسبوقة ضمن رؤية 2030.