“THE COVENANT” دراما حربية في الوفاء بالعهود
الاستماع للمقال صوتياً
|
بقلم أحمد المسيري
(حتى مع العدو ينبغي للمرء أن يفي بوعده)
” بوبليليوس سيروس “
ستظل أحداث الحادي عشر من سبتمبرعام 2001، حاضرة في أذهان كل من عاصرها بصفة عامة، والأمريكيين بصفة خاصة، تلك الأحداث التي قامت فيها طائرتان بالإصصطدام ببرجي (مركز التجارة العالمي) في مانهاتن بمدينة نيويورك، وطائرة ثالثة بمقر وزارة الدفاع (البنتاجون) بمدينة أرلينجتون بولاية فيرجينيا، بينما تحطمت طائرة رابعة في بنسلفانيا كانت تستهدف مبنى الكابيتول (الكونجرس) في واشنطن العاصمة، وقد أدت هذه الأحداث المؤسفة إلى مصرع مايقرب من 3000 شخص وإصابة مايقارب من 25 ألف آخرين، وقد أعلنت حركة طالبان الإرهابية تحت قيادة “أسامة بن لادن” وقتها مسؤوليتها عن هذه الهجمات، وقد جاء رد فعل الولايات المتحدة الأمريكية سريعاً فقامت بشن حربين بدأت الأولى على حركة طالبان بأفغانستان عام 2001، ثم غزو العراق في عام 2003.
ومنذ نشأة الولايات المتحدة الأمريكية كانت الحروب عامل رئيسي ومؤثر على العديد من القضايا السياسية، والإقتصادية، والإجتماعية وغيرها، كما كانت لأحداث الحادي عشر من سبتمبر واقع وأثر كبير ليس فقط على إعادة تشكيل الإدارة الأمريكية لسياستها الخارجية، ولكن أيضاً على السينما الأمريكية والتي بدأت في إنتاج عشرات الأفلام عن الحرب في العراق وأفغانستان، مما أدى إلى تصاعد موجة جديدة من الأفلام التي تحكي قصص الحروب على الشاشة من وجهة نظر السينما الأمريكية، وكان لذلك أثر كبير في إعادة تشكيل رأي عام حول موضوع الحرب ما بين مؤيد ومعارض ومحايد من قبل جمهور السينما.
قصة غير تقليدية
للوهلة الأولى سنظن أن فيلم “العهد” الذي تم إنتاجه في أبريل عام 2023 كباقي أفلام دراما الحرب الأمريكية، والتي تحكي عن بطولات وتضحيات الجنود الأمريكيين في مناطق الحرب المشتعلة، وصراعهم مع الجماعات الإرهابية، أو معاناة ذويهم، أو أنين المدنيين في هذه المناطق من ويلات الحرب، ولكنه ذهب إلى بعد جديد يتناول قضية المترجمين الأفغان الذين تعاونوا مع الجيش الأمريكي، فأصبحوا مستهدفين هم وأسرهم من قبل حركة طالبان الإرهابية، ففي المشهد الأول من الفيلم يٌكتب على الشاشة وبطريقة مباشرة أن الولايات المتحدة الأمريكية قامت في 7 أكتوبر 2001 بنشر 1300 جندي أمريكي في أفغانستان، وبحلول ديسمبر 2011 زاد عدد القوات إلى 98 ألف جندي، ووظف الجيش الأمريكي 50 ألف مترجم أفغاني ووعدهم بتأشيرة دخول للولايات المتحدة الأمريكية.
وتدور أحداث فيلم “العهد” للمخرج البريطاني “غاي ريتشي”، في مارس عام 2018 عن الرقيب “جون كينلي” والذي يجسد شخصيته النجم الأمريكي “جيك جلينهال“، والذي يقود وحدة مسؤولة عن كشف مقرات تصنيع المتفجرات لحركة طالبان، وأثناء عمله يلقى المترجم الأفغاني الخاص به مصرعة نتيجة إنفجار سيارة مفخخة، فيطلب الرقيب “جون كينلي” مترجم جديد يتمتع باللياقة البدنية، فيتم ترشيح مترجم جديد له ” أحمد عبدالله” والذي جسد دوره الفنان الدنماركي من أصل عراقي “دار سالم”، وأثناء أحدى المداهمات لأحد مصانع طالبان المسلحة، يتم قتل جميع أفراد فرقة الرقيب “كينلي”، بإستثنائه هو ومترجمه “أحمد”، وتحدث مطاردة لمجموعة من مقاتلي طالبان لهما وأثناء أحد الإشتباكات يصاب الرقيب “كينلي” إصابة بالغة كادت تودي بحياته، فيقوم “أحمد” بإنقاذه، ويخوض رحلة محفوفة بالمخاطر ليعيده إلى قاعدة Bagram Airfield الأمريكية، ويستيقظ “كينلي” ويجد نفسه في وطنه أمريكا، ويعلم أن “أحمد” لازال في أفغانستان، وأن حركة طالبان تستهدفه هو وزوجته وطفلة الرضيع، فيقرر العودة بنفسة إلى أفغانستان وإنقاذه وإحضاره هو وأسرته إلى الأراضي الأمريكية ليفي بعهده.
الإعتماد على الشخصيات المركبة
في علم نفس الأفلام تعد الشخصية عامل أساسي في العمل الدرامي سواء في صناعة الحدث أو في ردود أفعالها تجاهه، وكلما كانت الشخصية مركبة وأكثر تعقيداً كلما أدى إلى التفاعل معها وتعظيم دورها في تحقيق عنصر توحد المشاهد مع الشخصية الدرامية، وقد لعب المخرج “غاي ريتشي” على أبعاد الشخصية الثلاثة بحرفية شديدة (البعد النفسي، والإجتماعي، والشكلي) في تقديم الشخصيات الأساسية في العمل، وتعمق في كل بعد منهم وإستطاع توظيفه بحرفية داخل النص، وتتسم الشخصية المركبة بالتناقضات، فهي شخصية يصعب التنبؤ بردود أفعالها، ورغم من أن الشخصيات المركبة التي أعتمد عليها “ريتشي” في عمله كانت تمتاز بالتحولات المفاجئة والسريعة، إلا أن هذه التحولات الدرامية وردود الأفعال جائت مقنعة، وكان لهذا التناقض أثر كبير في إبراز الصراع وتحريكه ودفع الأحداث للأمام وجعلها تمتاز بالدينامية.
فإذا قمنا بتقسيم الفيلم على ثلاثة فصول، فسنجد الفصل الأول يُبرز شخصية كل من البطلين الرئيسيين في القصة، حيث يتشاركان البطولة معاً في حربهما ضد حركة طالبان الإرهابية، وتبرز شخصية المترجم “أحمد عبدالله” في هذا الفصل على أنه شخصيه مستقلة عنيدة، ومتمردة، يعرف بيئته جيداً، لديه ثأر مع طالبان بسبب قتلهم لإبنه عندما كان “أحمد” يتعاون معهم في تجارة المخدرات، كما أنه شخص حريص يتمتع بالذكاء الحاد، يستطيع قراءة البشر، ويتوقع ردود أفعالهم، يفضل الصمت عن الحديث، للوهلة الأولى سننظر له كأنه ذئب ينظر للجميع على أنهم فرائس، ينتظر الإنقضاض عليهم في الوقت المناسب، ولكن على الجانب الأخر هو مخلص لزوجته، ثم نفاجيء بتحول هذه الشخصية في الفصل الثاني من العمل حينما يصاب الرقيب “ريتشي”، وبدلاُ من هروب “أحمد”، يقرر أن يحمله على عربة خشبية ويسير به عشرات الكيلومترات في طرق جبلية وعرة، معرضاً حياته للخطر من قبل طالبان حتى ينقذ حياته، فينكشف الجانب الأخر المضيء من شخصيته، والتي تتمتع بالوفاء والإخلاص والإنسانية حتى ولو كانت هذه السمات موجهة إلى ضابط أمريكي من المحتلين لأرضه.
أما في الفصل الثالث والأخير من القصة والذي يبدأ بعد إنقاذ الرقيب “ريتشي” وعودته إلى أمريكا، سيكشف الجانب المضاد لشخصية الرقيب الذي رأيناه يتمتع بالصلابة، والقوة، والشجاعة، والإقدام في صراعه مع طالبان، ولكن عند عودته للوطن يدخل في صراع جديد مع البيروقراطية الأمريكية، ويكتشف أنه عاجز عن مساعدة الشخص الذي عرض نفسه وحياة أسرته للخطر في مقابل إنقاذ حياته، فيفقد أعصابه وينهار، ويبرز الجانب الضعيف والهش من شخصيته، ولكن إخلاصه لعهده يدفعه لإستمرارية سعيه ومحاولاته لإنقاذ من أنقذ حياته.
التوظيف الجيد للعناصر السينمائية
يعتبر فيلم العهد دراما حربية غلب عليها الطابع الإنساني، إستطاع مخرجه أن يمزج فيه بين عنصري الجدية والترفيه، فقام بتوظيف عناصر الإبهار السينمائي في مشاهد الحروب والأكشن، والمطاردات، والتي صُنعت بحرفية وإتقان، أيضاً إختياره لطاقم العمل سواء على مستوى أبطال العمل الأساسيين، أو الفرعيين والمجاميع، حيث أستعان بأشخاص ذات مقومات شكلية تشبه الأفغان، يتحدثون سواء باللغة الدارية (الفارسية الأفغانية)، أو لغة البيتشو، مما أضاف بعد واقعي على العمل، أيضاً إختياره لمواقع التصوير، فرغم من أن الفيلم تم تصويره بمقاطعة (أليكانتي) الأسبانية، إلا أن المخرج وطاقم العمل نجحوا في تقديم خلق جغرافي جيد للأماكن، وصناعة معادل بصري وجغرافي مقنع وكأن التصوير تم بالفعل في أفغانستان، بالإضافة إلى التكوين الجيد للكادرات، والإضاءة، والتصوير المميزين، سواء للبيئة وجغرافيا المكان، أو للأحداث، كما أن الموسيقى التصويرية كانت حاضرة بقوة في العمل وكان لها واقع قوي في التوحد مع الأحداث، وقد حاز فيلم العهد في موقع Rotten tomatoes الأمريكي على تقييم 98% من قبل المشاهدين، و 83% من قبل النقاد، بينما وصل أخر تقييم له على موقع IMDbإلى 7,5 من 10.
الوفاء بالعهود لوحة تعكس قمة الإخلاص والإنسانية
فيلم العهد ليس مجرد قصة عميقة تنشأ بين جندي أمريكي ومترجم أفغاني بُنيت علاقتهما على المصلحة المتبادلة، فكل شخص كان ينتظر من الأخر خدمة مدفوعة المقابل، ولكنها تحولت إلى علاقة ذات بعد إنساني في ظل ظروف وزمان ومكان لا مجال فيه للتعاطف والإنسانية، هذا الفيلم قدم رمزية لعدم التخلي عن إنسانيتنا حتى في أقسى الظروف، وأيضاً رمزية لكل مترجم أفغاني تم قتله هو وأسرته على يد حركة طالبان الإرهابية، إما بسبب عدم حصوله على تأشيرة الولايات المتحدة الأمريكية، أو بسبب تأخرها، تلك الرمزيات التي إستخدمها المخرج “ريتشي” في عمله تعبر عن قمة المعاني الإنسانية الرحيمة التي يجب أن يتمتع بها البشر من (الإخلاص، والرحمة، والتقدير، والوفاء بالعهود)، تلك الرمزيات التي يقابلها المعنى القبيح للخيانة، والخذلان، وخيبة الأمل والتي لا يتمنى أي شخص أن يتجرع مرارتهم.
فالخذلان نار تحرق القلوب، وخيبة الأمل تتجسد في عدم الوفاء بالعهود.