الانقسام السوري تكتيكاً
الاستماع للمقال صوتياً
|
هلسنكي – بوابة سوريا
بقلم مانيا الخطيب
لعل هذا التكتيك الذي استُخدم في سوريا هو أحد الأبرز والأنجح، ما ساعد على حكم هذا البلد المتنوع سكانياً. وكان المقصود من هذا التكتيك ضرب أي توافق وطني سوري عام قائم على التداول السياسي وصناعة القرار الوطني التشاركي.
طبعاً ليس خافياً على أحد السبب الأساسي الذي يُراد لسوريا أن تكون ضعيفة سياسياً وأن يكون فيها إما نظام ديكتاتوري شمولي، أو قوى سياسية ممزقة يسهل التنسيق معها، وهو سبب جيوسياسي متشعب للغاية بسبب التناقض الشديد للمصالح الإقليمية والدولية في سوريا والذي لا يتسع هذا المقال للخوض فيه وسوف أركز على ما يهمنا داخلياً في هذه المرحلة الحرجة جداً.
أدى هذا التكتيك منذ أكثر من خمسين سنة إلى سيادة حزب حاكم واحد فقط لا غير تحت ما يسمى “الحزب القائد للدولة والمجتمع” تحت البند الثامن من الدستور السوري وهو “حزب البعث العربي الاشتراكي” الذي تعرض هو نفسه إلى انقسام حاد تحت ما يسمى البعث السوري والبعث العراقي، وقد بطش المنقسمون ببعضهم أشد البطش من اعتقال وتصفية وتشريد.
وسأورد هنا على سبيل التوضيح بضعة أمثلة رئيسية عن هذا الانقسام وتحديداً منذ 1970، حتى أصل إلى ما أريد قوله في هذا المقال:
– الانقسام على المستويين الأفقي والشاقولي الذي حصل في الأحزاب السورية وخصوصاً القومية واليسارية، بخصوص ما يسمى “الجبهة الوطنية التقدمية”، فمنهم من وافق أن ينضوي تحت حكم البعث “القائد للدولة والمجتمع”، ومنهم من رفض ذلك وكان مصيره معروفاً من اضطهاد بكل السبل.
– بعد مرور عقد من الزمان، انقسم السوريون سياسياً حول ما سُمّي “أحداث الإخوان” فمنهم من ردد مع حزب البعث “عهدنا أن نتصدى للامبريالية والصهيونية والرجعية ونسحق أداتهم المجرمة عصابة الإخوان المسلمين العميلة”، ومنهم من تحالف مع الإخوان المسلمين في أوائل الثمانينات وعلى رأسهم أقطاب من اليسار السوري الذي تمرد من الأساس على نظام الأسد، وهذا التحالف كان المقصود منه في حينه، النضال ضد الديكتاتورية وإلغاء الحياة السياسية في سوريا، وبالطبع دفع المتحالفون أقسى الأثمان وأحدهم الأستاذ رياض الترك الذي رحل عن عالمنا مؤخراً.
– بعد المسرحية الهزلية لتغيير الدستور في مجلس الشعب السوري والتي أدت إلى استلام بشار الأسد مقاليد الحكم، أعاد التحالف الآنف الذكر بين اليسار وبين الإخوان انتاج نفسه تحت ما يسمى ” إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي” والذي أيضاً أدى إلى التنكيل بالموقعين بعد أن تنفس البعض بوادر الأمل بالتغيير بعد ما سمي “ربيع دمشق”.
– مع اندلاع ثورة الكرامة السورية في 2011 حدث أهم وأخطر انقسام سياسي سوري بين هيئة التنسيق الوطني السوري وبين المجلس الوطني السوري، ما أعاد من جديد إنتاج التحالف الآنف الذكر الذي حصل في الثمانينات بين اليسار والإخوان المسلمين. وبعد مرور حوالي سنة تم استكمال إنتاج ما يسمى “الائتلاف الوطني السوري” الذي يعرف الجميع كيف آلت إليه الأمور وغدا أهم أقطاب الانقسام. وفي 10.12.2015 تم الإعلان عن ما يسمى “مجلس سوريا الديمقراطية” الذي هو الجناح السياسي لما يسمى “قسد” اختصار لـ “قوات سوريا الديمقراطية”، وهو تحالف لمجموعة من الأحزاب الكردية واليسارية، وأهم الفاعلين فيه وأكثرهم تنظيما هو “حزب الاتحاد الديمقراطي”.
من وجهة نظري الشخصية أنه على الرغم من الدور الذي سأتحدث عنه بعد قليل في طريقة وتوقيت طرح فكرة “الإدارة الذاتية” إلا أن أهم إنجاز لهذا التحالف هو الطعن بشرعية تمثيل الائتلاف للشعب السوري. لقد كان تعطيل هذه الشرعية أمر جيد لأن الائتلاف كان من الممكن أن يكون ورقة سياسية في إدارة الأزمة دولياً، وهذا أيضاً حديث طويل يمكننا تناوله لاحقاً.
يظهر الآن على الخريطة السياسية السورية الأحزاب التالية التي تشكل النوى الصلبة للقوى السورية التي تشكل أقطاب الانقسام السياسي السوري:
– ما تبقى من حزب البعث العربي الاشتراكي
– حزب الإخوان المسلمين
– حزب الاتحاد الديمقراطي
كتبت هذه المقدمة بعد التشنج الذي رأيته آخر أسبوعين في ساحة الكرامة في السويداء، والذي يحاول أن يقوم به ما يسمى “حزب اللواء” الذي لا معلومات دقيقة عن خلفية هذا الحزب الذي ظهر فجأة، وقام بإنزال مظلي سياسي بين الجموع الثائرة وهو يحمل بيده ورقة “الإدارة الذاتية” بنفس الطريقة والأسلوب التي ذكرتها منذ قليل.
التلويح بهذه الورقة ليس إلا محاولة لبث “الانقسام السياسي السوري” وهي آخر ورقة ممكنة على الإطلاق في هذه المرحلة وفي هذه المحافظة بالذات.
فكرة الانقسام الآن هي شيطنة الحراك على أساس علماني وإخواني، ومع أن هذه الثنائية مضحكة في محافظة تقطنها أغلبية درزية، إلا أنه ليس من الصعب الترويج أن المقصود هو التحالف السياسي مع الإخوان – على سبيل المثال وليس الحصر – بما أنهم تلحفوا بعلم الثورة الأخضر للحصول على قبول من الشارع السوري.
المؤسف أن بعض من يشارك في هذه البلبة هم من ثوار الأمس الذين دفعوا أثمانا لمواقفهم إلا أنهم تعرضوا للخذلان الشديد ثم بدأوا يبحثون عن مكان يتخندقون فيه وقد اختاروا المكان الخطأ، وهو المكان الذي يسعى إلى ضرب أحد أرقى وأجمل حراك ثوري حقيقي يسعى إلى خروج سوريا كلها من المستنقع السياسي العفن الذي تتخبط فيه.
نحن اليوم على مفترق طرق الأول: هو النجاح في خلق مزيد من البلبلة وإبعاد الفاعلين والمؤثرين شيئاً فشيئاً عن الساحة، وشيطنة الحراك في عيون الناس خصوصاً أنه حتى الآن لم يتم التوافق على ورقة عمل تبدأ بإنتاج حلول عملية، وهنالك رهان على تعب وملل الناس، وهذا حل انتحاري سوف يحول ما تبقى من حياة الناس إلى جحيم أكثر من الجحيم الذي هم فيه.
الثاني: أن يقوم اليوم شرفاء السويداء وهم كثر بتقديم ميثاق وطني يسعى إلى إجماع وطني سوري عام، سيلقى بالتأكيد كل التجاوب من أحرار الوطن للتوافق على برنامج وخطة نخرج فيها من هذا النفق المظلم.
لم يتجاهل النظام السوري مظاهرات السويداء عبثاً، فهو يعرف أنه لا زال لديه هذه المحاولة الأخيرة لتفكيك الحراك من الداخل عن طريق بث هذه البلبلة التي سوف يشارك فيها أهل البلد أنفسهم، ويوفر على نفسه شر القتال.
نحن الآن أمام استحقاق وطني ملزم وهو قطع الخط نهائياً على مثل هذا الانقسام وإنقاذ ثورة كل السوريين.