قبل السلام.. بعد الحرب
الاستماع للمقال صوتياً
|
رسالة محرّر WHIA
بقلم مرح البقاعي
أصبحت الحرب الشعواء التي تديرها إسرائيل في غزة أمراً يثير قلق واشنطن وامتعاض الشارع الأميركي إلى جانب طيف واسع من ممثليه في الكونغرس ومجلس الشيوخ.
وغدا من الجلي أن إسرائيل لا تريد الإنصات إلى النصائح الأميركية في تجنّب الإيغال في القصف والتدمير وتعريض أرواح المدنيين الفلسطينيين الأبرياء للاستهداف اليومي قتلاً وتهجيراً وانتهاكاً.
الهدنة التي استمرت لأسبوع واحد انتهت بشكل درامي نتيجة خلاف لوجستي في قوائم الأسرى بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، في حين عاد القصف المروّع لقطاع غزة ليهدد بسقوط المزيد من الضحايا المدنيين في ظل غياب أي احتمال لاستعادة هدوء مؤقت (إن لم نقل هدن) من أجل الإفراج عن المزيد من الأسرى والرهائن وكذا السماح بدخول المساعدات الإنسانية للقطاع.
لقد تسببت الحرب الإسرائيلية على غزة، المستعرة منذ ثمانية أسابيع تقريبا، والتي سبقت التهدئة، في دمار واسع النطاق، وشهدت مقتل أكثر من 14800 مدني في غزة وفقاً لوزارة الصحة الفلسطينية في الضفة الغربية، والتي تستمد بياناتها من السلطات الصحية التي تديرها حماس في القطاع.
لكن، ومع اندلاع الجولة الثانية من القتال، أوضحت الولايات المتحدة لإسرائيل أن حجم الدمار الذي سببته في الشمال لا ينبغي أن يتكرر، وأنه “في حال لم يتم حماية المدنيين من استهدافهم خلال العمليات القتالية، سيتحول الانتصار التكتيكي التي تعلن عنه تل أبيب متفاخرة، وبسرعة، إلى هزيمة استراتيجية لإسرائيل” وفق تصريح أخير لوزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن.
تصريح أوستن هذا جاء إثر نصائح متكررة من الرئيس بايدن ووزير خارجيته، أنتوني بليكن، خلال لقاءاتهما الشخصية مع رئيس حكومة إسرائيل، بنيامين نتنياهو، إلى جانب أعضاء مجلس الحرب الذي شكّله، نصائحهما بضرورة تجنّب إزهاق ارواح المدنيين. وقالها بلينكن بوضوح لا يقبل التأويل بأن “إسرائيل تستطيع أن تستكمل أهدافها العسكرية دون أن توقع ضحايا مدنيين”.
من الجلي أن الحرب في جنوب القطاع قد تكون أشرس من الحرب في شماله. كما يعتقد العديد من أهالي الرهائن الإسرائيليين المحتجزين في قبضة حماس أن حكومة نتنياهو تقبل أن تضحي بهم خلال هجماتها على الجنوب، ولا تهتم لبقائهم أحياء. فالعودة إلى الهدن وتحرير الرهائن سيكلف نتنياهو ائتلافه الحاكم سياساً كلفاً باهظة، ولاسيما إذا اضطرت أن تقبل بشروط حماس في تحديد قوائم الأسرى من الطرفين.
تفيد المعلومات القادمة من العاصمة القطرية الدوحة، أن المفاوضات مع الوسطاء القطريين والمصريين بشأن إطلاق سراح الرهائن مستمرة حتى بعد إعلان إسرائيل عن استئناف عملياتها، بينما تكثف الولايات المتحدة الآن ضغوطها على إسرائيل لتجنب سقوط ضحايا من المدنيين في الجولة القادمة من القتال.
وقد أوضح بلينكن خلال لقائه الأخير بنتنياهو على ضرورة وضع خطط حماية إنسانية، وتجنّب استهداف المستشفيات ومحطات الطاقة والمرافق.
نتنياهو وعد باتخاذ خطوات للتقليل من الخسائر بين سكان غزة العزل، لكن الجميع يشك بأنه سيكون جاداً في تنفيذ وعده، وهو الذي أوغل في الدم الفلسطيني دونما رادع ضميري أو إنساني ولا حتى أخلاقي، متجاوزاً كل الضغوط حيناً، والنصائح أحياناً، التي وُجّهت إليه من نظرائه في واشنطن
في حين أن الجميع ينتابه شك عميم في قابلية استجابة إسرائيل لنصائح الولايات المتحدة المتوالية، بدت قسوة الخطاب الأميركي واضحة في اللقاء الأخير بين الرجلين – بلينكن ونتنياهو- حيث كان وجههما متجهماً كما لم يظهرا من قبل!
أما إذا استجابت إسرائيل لتوجيهات واشنطن، فسيكون الأمر مؤشرا قويا للغاية على مدى التأثير الذي مازالت الولايات المتحدة قادرة على ممارسته على حكومة إسرائيل المتشددة الحالية.
فحكومة تل أبيب تدرك تماماً أنها إذا اتبعت النهج العسكري نفسه في جنوب القطاع كما فعلت في الشمال، فقد يؤدي ذلك إلى خلاف مفتوح لا يحمد عقباه مع إدارة بايدن. ولأن قادة الحرب الإسرائيليين يريدون تجنب حدوث صدع كبير في العلاقة مع أميركا الداعمة باستمرار لهم، فهناك احتمال أنهم سيتخذون على الأقل بعض الخطوات للتخفيف من وطأة نهجهم العنفي في المرحلة المقبلة.
من نافلة القول، والعالم يراقب هذا المشهد الدموي الذي يدفع ثمنه ضحايا مدنيون لا حول لهم ولاقوة ولا مكان آمن يتوجهون إليه بعد أن استنفذ الجيش الإسرائيلي خارطة استهدافاته التي شملت المشافي وأماكن العبادة مسيحية كانت أم إسلامية والمدارس والملاجئ… أنه لابد من أن يستمر الموقف العربي في زخمه لمنع أية محاولة للتهجير القصري بهدف اقتلاع أهل غزة من أرضهم وفصلهم عن سعيهم لحق مشروع في دولة مستقلة يعيشون فيها بكامل حقوق المواطنة والسيادة والاستقلال، وكذا لضرورة تواصل إدخال المساعدات الإغاثية للمكلومين من أهل غزة، وتخفيف معاناتهم بالقدر الأقصى، مع الاستمرار في المفاوضات التي تديرها الدوحة من أجل العودة إلى تنفيذ اتفاق الهدن وتبادل الأسرى واستعادة كل الرهائن، والانتهاء إلى وقف إطلاق نار كامل، والعودة المأمولة إلى طاولة أوسع من المفاوضات على حل الدوليتين.
ولا بد لإسرائيل أن تعي، حكومة وشعباً، أن قيام دولة فلسطينية كاملة الحقوق والواجبات هو ضمان لأمن إسرائيل قبل أن يكون في مصلحة الفلسطينيين والعرب.
ولابد أيضاً من الوعي العميق من طرفي النزاع بأن عملية السلام المنشود – التي أصبحت ملحّة إثر أحداث 7 أكتوبر وما تلاها – ستحتاج إلى تحولات عميقة في المجتمعين الإسرائيلي والفلسطيني يتفهّم فيها الطرفان المعاناة والأثمان البشرية الغالية التي تُدفع مع استمرار النزاع، ثم المضي قُدماً في الاعتراف الراسخ بالحق المتبادل للشعبين في العيش بأمن وسلام واستقرار.
السلام المستدام بين الطرفين الإسرائيلي والفلسيطيني سوف يتطلب أيضاً وجود زعماء سياسيين يتمتعون برؤية ثاقبة مستقبلية، وعلى استعداد للتفاوض بحسن نية وقابلية لإرساء قواعد عملية وراسخة للسلام.
فهل سيخرج الشعب الإسرائيلي حين تضع الحرب أوزارها في مظاهرات عارمة، تماماً كما فعل لحماية منظومته القضائية من اعتداء نتنياهو على استقلالها، حاثّاً دولته على المضي في حل الدولتين كملاذ أخير للأمن والتعايش مع أبناء عمومتهم الفلسطينيين؟
أتساءل!