مابعد ’الطوفان’ وعتبة البرغوثي
الاستماع للمقال صوتياً
|
واشنطن – خاص وايتهاوس
مقال الرأي بقلم نشمي عربي
إذا كنت تقرأ هذا المقال في صفحة الرأي في هذا الموقع، فهو كالمقالات التي سبقته، مقال رأي سياسي، لامجال للخطأ في ذلك، هو ليس نصاً أدبياً أو منشوراً حزبياً، وإن كان لاضير في أن ينحاز المقال الأدبي للحق، فإن مسؤولية المقال السياسي هي أن ينحاز للحقيقه، وأن يتحراها ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
من الطبيعي أن يعكس مقال الرأي السياسي وجهة نظر كاتبه، وموقفه من الحدث الذي يتناوله، بطريقته وأدواته، مستنداً في ذلك إلى قرائته وتحليله السياسيين المبنيين على حقائق، لا على مشاعر، فالمقال الذي يقوم على التحليل السياسي الحقيقي لا مكان فيه لشعور وطني وآخر غير ذلك، ولا انحياز مطلق لطرف أو رأي أو فكرة أو قضية، ولا ضدها، مهما كانت تلك القضية مقدسة أو منبوذة، عند الكاتب أو بعضاً من جمهور قراءه، فالمقالة السياسية التي تبتعد عن التحليل السياسي المحايد لصالح الدفاع عن قضية تؤمن بها، أو ضد قضية تنبذها، تحمل معها فرص تحولها لنشرة حزبية، أو دورية إيديولوجية، مكانها الإدارة السياسية وهيئات التوجيه المعنوي في الدول ذات الطابع الشمولي.
عندما كتبت في مقال سابق نشره موقع وايتهاوس بعنوان (عندما يدفع نتنياهو فواتير أوباما) أن إيران (وبوتين) هما المستفيدان من عملية حماس في غزة، فقد وضحت الأسباب والظروف التي قادتني لهذه الخلاصة، والتي استَنَدَت إلى السياق الزمني والسياسي الذي أتت فيه، وبالنهاية فهذه هي قرائتي التي قد تصيب وقد تخطأ، وليس في الأمر اتهام لحماس ولا لغيرها، إلا إذا كان بعض من جمهورها من الإسلام السياسي يرى في علاقتها بإيران تهمةً تستدعي الدفاع عنها، وكالعادة بطريقة الردح السياسي الذي ربما لايجيدون غيره.
عندما أتحدث مثلاً عن قضية الشعب السوري وأستند في قراءة المشهد السوري المعقد إلى صورة أعم وأوسع تشمل المنطقة كلها بقواها الدولية والإقليمية، وأتحدث عن مستفيدين من استدامة المأساة السورية، فالأمر قطعاً لايحمل في طياته تصغيراً لآمال وأمنيات السوريين ولا استهانةً بتضحياتهم في سبيلها، ولكن لإيماني بأن أي قراءة للمشهد السوري لن تستقيم دون إدراك واقعي وحقيقي للمشهد السياسي في المنطقة كلها، وقضية سورية وشعبها الجريح ليست أقلَّ قدسيةً عندي من قضية الشعب الفلسطيني المصابر، ولكنني أعود إلى أن التحليل السياسي شيء، والشعور الوطني أمر آخر تماماً.
عندما عدت في مقال آخر بعنوان (خطر وفرصة وحلم سياسي) وقلت: نجحت إيران بكل تأكيد في فرض نفسها لاعباً مهماً ورئيسياً في المنطقة، وحده يملك القدرة على إطفاء الحرائق، كما على إشعالها، فإن ذلك لايعني بالضرورة حتمية نجاح هذا اللاعب في جميع مفاصل اللعبة السياسية، فالإيرانيون أنفسهم يملكون من البراغماتية والواقعية مايكفي للإبتعاد عن قناعة واهمة كهذه، بل ويدركون بحصافة وحذر شديدين أن الأمور في فلسطين من الممكن جداً أن تأخذ منحىً آخر غير الذي يتمنونه، كافة الإحتمالات مفتوحه في هذه المرحلة الحرجة، خصوصاً وأن العمليات العسكرية الشرسة لاتزال قائمة، وفرص الوصول إلى وقف إطلاق نار والأهم الإلتزام به لاتزال غير متوفرة، مع ملاحظة مهمه وهي أن أعلى سقف تطالب به الإدارة الأمريكية للتهدئة حتى الآن يتحدث عن وقفات تكتيكية وليس هدنه مستدامه.
أي طوفان لابد أن يأخذ مداه كاملاً قبل أن يصبح من الممكن رصد آثاره، ولذلك لايزال من المبكر جداً الإلمام الكامل بتداعيات عملية حماس، هذا لايمنع أن تكون هناك مؤشرات مبدئية قد تكون لها دلالاتها وتستحق الرصد، وإن كنت أعتقد أن أهمها ستكون ضمن المجتمع والفضاء السياسي الإسرائيليين، وبعيداً عن المواقف السياسية المؤيدة بشدة لحماس، كما الأخرى المنتقدة بشدة لها، فلعل الصحافة الإسرائيلية ستكون أهم مايمكن متابعته لرصد تداعيات الطوفان، خصوصاً فيما يتعلق بالمزاج السياسي الإسرائيلي عموماً، والتي ربما لن تتبلور قبل انتهاء العملية العسكرية الإسرائيلية التي وإن كانت قد تجاوزت في بطشها وترويعها كل الحدود التي يمكن تخيلها، فلعل ردات الفعل السياسية ضمن المجتمع الإسرائيلي لن تكون أقل حدةً، الأمر الذي يدركه نتنياهو تماماً، ولعله أحد أسباب إصراره على المضي لأبعد مدى زمني وعنفي في عمليته العسكرية، لتأخير ذلك، بعد أن فشل في توسيع رقعة الصراع وتحويله إلى حرب إقليمية تكون حبل نجاة سياسية له، كان واضحاً أن الإدارة الأميركية وإيران ضدها بالمطلق.
بالمقابل تدرك حماس أن مشكلتها الأساسية ربما لاتكون في قدرتها على مواجهة آلة البطش العسكري الإسرائيلية الجبارة، أو في تحملها للثمن الإنساني المروع الذي يدفعه المدنيون الفلسطينيون اليوم، بل في قناعتها الأكيدة بأن النظام الرسمي العربي لن يسمح لها بأن تخرج منتصرةً ولا مستفيدةً من تداعيات الطوفان، وهو في موقفه هذا يستند إلى حالة توجس شديدة وعداء متأصل مع ظاهرة الإسلام السياسي، الذي يتحمل هو أيضاً نصيبه من المسؤولية في عدم قدرته على فرض نفسه كفاعل جماهيري بمشروعية شعبية.
بغض النظر عن الموقف من حماس خصوصاً والإسلام السياسي عموماً، وبعيداً عن علاقة حماس الخلافية بمايسمى (محور المقاومة) الذي أثبت لحماس قبل غيرها أن حساباته السياسية تأتي في المرتبة الأولى ولو على حساب ثمنٍ عالٍ جداً ومخيف جداً يدفعه المدنيون الفلسطينيون اليوم، فإن القضية الفلسطينية عادت اليوم لواجهة الأحداث، ليس على صعيد المنطقة فقط، بل على صعيد العالم، والنظام الرسمي العربي اليوم لديه خياران واضحان:
الأول (ترقيعي) يقوم على إعادة إنتاج (المستحاثات) السياسية التي تجاوزتها الأحداث، في الساحتين الفلسطينية والعربيه، والأهم من ذلك الإسرائيلية، والثاني واقعي عملي يدرك حجم المتغيرات الفلسطينية والعربية والدولية، وكذلك الإسرائيلية، ليس مضطراً لأن يقبل بالإسلام السياسي وخطه الفكري ونهجه العملي، ولكنه يدرك أن زمن السلطة الفلسطينية الغافية ومايمثله قد انتهى إلى غير رجعه، وانتهى معه زمن (القادة) العرب المبتسمون دوماً، والذين يستنكرون بأشد العبارات مايتعرض له الشعب الفلسطيني، وكأن شعبهم يرفل في بحر من الطمأنينه والأمان.
التفاوض الإسرائيلي مع حماس بدأ فعلاً في قطر، برعاية وتشجيع أمريكي-إيراني، وإن كان غير مباشر، وهناك العديد من التسريبات عن قرب التوصل لصفقة كبرى يتم فيها إطلاق جميع الأسرى الإسرائيليين وتبييض السجون الإسرائيلية من كافة المعتقلين الفلسطينيين، وأن العقبة الأساسية لاتزال موضوع إطلاق مروان البرغوثي، الذي تصر حماس على أن يكون مشمولاً في العملية، الأمر الذي ترفضه حكومة نتنياهو، للأمر أبعاده السياسية الكبرى، بغض النظر عن القيمة الحقيقية لمناضل عنيد وشرس بحجم البرغوثي، الذي ستكون عودته لممارسة دور سياسي بمثابة كلمة النهاية لسلطة (أبومازن) التي تعلم ذلك تماماً.
هل ستتوقف نتيجة المفاوضات على عقبة البرغوثي؟ لا أعتقد ذلك، ولكنني أعتقد أن تعامل الطرفين الأساسيين (إسرائيل وحماس) مع هذه القضية سيكون بمثابة مؤشر مهم جداً على طريقة تفكير الطرفين، ومدى واقعيتهما، واستعدادهما للإنتقال لمرحلة قد تكون مؤلمة بواقعيّتها السياسية للطرفين معاً، ولكنها الوحيدة المجدية لشعبيهما، إن كان لناحية إسرائيل التي تعلم أنها بحاجة لشريك فلسطيني يملك مشروعية شعبية حقيقية وقادر على المشاركة بخطة حل يضمن للطرفين حداً معقولاً ومقبولاً من الأمن والحقوق، وإن كان لجهة حماس التي تعلم أن النظام الرسمي العربي، إضافةً لأسباب أخرى عديدة، لن يسمحوا بأن تكون هي هذا الشريك، ولعلها في غنىً عن ذلك، فهل تتحول العقبة إلى عتبة؟ يمكن الولوج منها لغد أكثر أمناً يحتاجه الجميع؟
هل قرأ الرئيس الروسي بوتين مالم يقرأه كثيرون غيره عندما سارع لاستقبال قيادة حماس في موسكو رغم علمه بما ستستدعيه خطوته تلك من رد فعل من حكومة نتنياهو؟ أم أنه يعتمد على أن إسرائيل المؤسسات والدولة العميقة ستكون ممتنة تماماً في قادم الشهور لهذا الانفتاح الروسي المفاجيء على حماس؟ وكأنه يستشرف عملية تحول سياسي كبرى يعلم تماماً أنه أكثر قدرةً من إيران على الاضطلاع بدور مهم فيها؟ إذا كان الأمر كذلك فلعل بوتين أيضاً كان ممن نصحوا النظام السوري بالابتعاد عن الموضوع بالمطلق وحتى عدم التعليق عليه تزامناً مع بداياته الأولى؟ وهل يستطيع بوتين في قادم الأيام بعلاقاته المميزة مع الطرفين جني مازرعته إيران ولن تكون قادرة على حصد ثماره، بالكامل؟ معتمداً على قناعته بأن الإيرانيين ميكافيلليين وواقعيين بمايكفي لتقبل الأمر؟
أما النظام الرسمي العربي، فأوجه له رسالة وحيدة وقصيرة:
اقرؤوا الصحافة الإسرائيلية، وبتمعن شديد، اقرؤوا مواضيع الرأي في الصفحات الداخلية، وليس عناوين الصفحات الأولى، وبعد أن تنتهوا منها …. أعيدوا قراءتها مرة ثانية.