’GOLDA’ بين الموضوعية والبروباغندا
الاستماع للمقال صوتياً
|
القاهرة – خاص وايتهاوس
بقلم أحمد المسيري
اعتادت السينما العالمية بصفة عامة والأمريكية بصفة خاصة أن تحكي وتعرض قصصاً عن نفسها وعن الآخر، سواء أكان في قالب من السرد الدرامي أو التاريخي أو السِيَر الذاتية أو غيرها من القوالب الآخرى، والبعض من هذه القصص قد تميل إلى الدعاية السياسية وتميل الآخرى الى السرد الموضوعي الغير منحاز، وسواء أتفقنا أو إختلفنا مع إسلوب سرد الأفلام للتاريخ والتي تحكيه من وجهة نظرها، ولكنها في النهاية تفتح أمامنا الباب للنقاش والبحث وإعادة إكتشاف موضوعات تستحق الإشارة إليها وأحياناً الرد عليها.
يُشير الكاتب الأمريكي نيل بوستمان NEIL POSTMAN في كتابه الترفيه حتى الموت AMUSING OURSELVES TO DEATH، إلى أنه لابد أن يتمتع الخطاب العام في العصر الحديث بوقع طيب على أبصار وأسماع الجمهور، فالسياسيون ومقدمو البرامج والوعاظ والمدرسون ينبغي عليهم أن يمرروا كل ما يتفوهون به من خلال فِلتر يحدد كيف سيبدو هذا الحديث في عيون الجماهير وأذانهم، وفي تلك الأثناء يمكن تعديل الرسالة أو تجميلها أو حتى تزييفها من أجل إكسابها مظهراً جذاباً ومقنعاً للجماهير، فوسيلة الإعلام هي التي تحدد شكل الرسالة التي تتناسب مع مضمونها، وهذا ليس ببعيد عن ُصناع السينما بإعتبارهم صُناع المحتوى الترفيهي الأول والأكثر رواجاً بين الجماهير.
قراءة في فيلم غولدا
في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول من كل عام يسترجع المصريون والإسرائيليون ذكرى يوم حرب أكتوبر عام 1973، والذي يحتفي به المصريون بإعتباره نصراً استطاعت فيه مصر تحطيم اسطورة خط بارليف والجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر، وإستردادها للأراضي المُحتلة في شبه جزيرة سيناء، بالإضافة إلى ضم سوريا جزءاً من أرضها المُحتلة، وقامت السينما المصرية بإنتاج العديد من الأفلام التي تعبر عن هذا النصر.
ولكن ماذا يمثل هذا النصر من وجهة نظر الجانب الأخر؟
هذا ما عبر عنه المخرج الإسرائيلي “غاي ناتيف” والكاتب البريطاني “نيكولاس مارتن” في فيلم “Golda“، والذي يعتبر من نوعية أفلام الدراما التاريخية والسيرة والذي يدور حول “غولدا مائير” التي تُعد رئيسة الوزراء الوحيدة في تاريخ إسرائيل (1969- 1974)، ويستعرض الفيلم فترة زمنية قصيرة من حياة “غولدا” ولكنها الفترة الأكثر أهمية وتعقيداً في حياتها وهي فترة حرب يوم الغفران ( Yom Kippur) أو نصر أكتوبر عند المصريون.
عُرض فيلم غولدا في فبراير/ شباط الماضي بمهرجان برلين الدولي، ثم طُرح بعد ذلك في دور العرض في 25 من أغسطس/ آب الماضي، وجسدت “هيلين ميرين” شخصية “غولدا مائير”، وعلى غرار مقولة ( أن الأزمات كاشفة لجوهر الإنسان) فرغم تركيز الفيلم على جزء صغير جداً من حياة “غولدا” إلا أن هذه الفترة تعكس خلاصة تجاربها السابقة.
بدأت المشاهد الأولى من الفيلم بإستجواب “غولدا” من قبل لجنة التحقيق “أغرانات” والتي تكونت للتحقيق في قصور قادة إسرائيل خاصة في الأيام الأولى من حرب أكتوبر، حيث تظهر السيدة التي لُقبت بـ “سيدة إسرائيل الحديدية”، حزينة ومنكسرة تسترجع الأحداث المأساوية لأيام الحرب على طريقة الفلاش باك، وهنا ظهرت براعة المخرج وقدرته على توظيف أدواته في تلميع شخصية “غولدا” والتي تظهر وكأنها جدة طيبة تجمع ما بين صفات الحكمة والإنسانية والقيادة، وتحمل على عاتقها هموم شعبها والتي تنظر إليه باعتبارهم أبناؤها، مما يوضح أن ليس العرب فقط من يهتمون بأملكة ومحو أخطاء وإضفاء صفة القدسية على شخصياتهم التاريخية وقادتهم السياسيين عند عرضها في الأعمال السينمائية، ولكن الإسرائيليون قد يتفوقون عليهم في ذلك.
استطاعت “هيلين ميرين” أن تؤدي دور “غولدا” ببراعة فائقة للدرجة التي تجعل المشاهد لا يستطيع في بعض الأحيان التفرقة بينهما، هذا بجانب احترافية وتمكن الماكيير الذي نجح في إخفاء ملامحها الحقيقية خلف كم هائل من الماكياج حتى تشبه الشخصية الحقيقية، وقام المخرج بإستخدام الرمزيات التعبيرية وتوظيف الصورة ليظهر صراعات غولدا الداخلية والخارجية، بما فيها صراعها مع مرضها سرطان الغدد الليمفاوية والتي لم تكن تكترث بأمره على قدر قلقها من العرب وكأنهم السرطان الأكثر خطراً، فلا تترك السيجارة من يدها، لتظهر في أحد المشاهد وكأنها تختفي خلف سحابة كبيره من دخان سيجارتها في دلالة على إنعكاس أثار الحرب والدمار على روحها، وفي وسط الحرب تضع أرواح جنودها في الأولوية وكأنها الجدة والأم البيولوجية لهم.
عند النظر إلى إسلوب السرد بالصورة السينمائية لفيلم غولدا سنشعر وكأن الكادرات تعبر عن لوحات تصويرية تجمع ما بين نمط البورتيريهات الصريحة وبورتيريهات أنماط الحياة، فلا يستطيع أحد إنكار براعة المخرج ومدير التصوير في توظيف الصورة والإضاءة لخدمة الرؤية الفنية التي تبدو في بعض الأحيان وكأن المخرج يرغب في دفع المشاهد للتعاطف مع “غولدا”.
بعض الادعاءات في فيلم غولدا
اقترن فيلم “غولدا” بالعديد من الإدعاءات والتي تُنسب إليها، وكان منها إظهار هجوم المصريون والسوريون المشترك بالخيانة وليس برد فعل على إحتلال جزء من أرضهم على يد الجيش الإسرائيلي، وظهور إسرائيل على أنها تواجه العرب وحدها وأن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تقف على الحياد خوفاً من تدخل الإتحاد السوفيتي، على الرغم من دعمها لهم بداية من استخدام الأقمار الصناعية الأمريكية لإرشاد الإسرائيليين لتحركات الجيش المصري، مروراً بإقامة جسر جوي قامت فيه بإمداد الجيش الإسرائيلي بالأسلحة الثقيلة فيما عرفت بعملية (عُشب النيكل) (Operation Nickel Grass)، مما نتج عنه قيام الدول العربية الأعضاء في منظمة الأوبك باتخاذ موقف من الولايات المتحدة قامت على أثره المملكة العربية السعودية بوقف تصدير النفط لها، وتحملت الولايات المتحدة أخطاء إسرائيل وتسلط قادتها وغطرستهم والتي تم الإشارة إليها صراحة في الفيلم، وصولاً لدورها في عملية السلام بين الطرفين.
وقد ظهرت “غولدا” وكأنها مدفوعة إلى الحرب على عكس رغبتها، وأن ما قامت به ليس إلا رد فعل للهجوم المصري السوري المباغت لإسرائيل، وأنها ضد الحرب وتلتزم بإتفاقها مع “نيكسون” رئيس الولايات المتحدة على ألا تبدأ بضرب مصر وفقاً لإتفاقية وقف إطلاق النار التي وُقعت بين الأطراف المتحاربة في عام 1970، وأنها لم تكن ترغب إلا في إعتراف “السادات” بإسرائيل، كما أنها لم تكف عن التنميط السلبي وشيطنة أعداؤها فتارة تقوم بتصوير العرب على أنهم ذاقوا طعم الدماء وأنهم إذا وصلوا إلى تل أبيب لن يأخذوها حية في إشارة منها لوصفهم بالهمجية والتوحش، وأن هدفهم الحقيقي إبادة إسرائيل وليس مجرد تحرير أرضهم المحتلة، وتارة آخرى تصف الروس بأنهم وحوش.
رغم محاولة المخرج لظهور فيلمه على أنه عمل فني محايد ولكنه لم يكف عن تمرير بعض الإدعاءات وعلى طريقة ال Subilminal messeges (الرسائل اللاشعورية) المتعارف عليها في الأعمال السينمائية السياسية على إعتبار هذه الأعمال خطاب سمعي بصري يستطيع النقل السهل والجيد للمعلومة بطريقة غير مباشرة فيؤثر في وعي المُتلقي، وسنلاحظ هنا إصرار من الجانب الإسرائيلي على إعادة تكرار إسم “أشرف مروان” زوج إبنة “عبد الناصر” ومستشار “السادات” على إعتبار أنه كان يقوم بنقل أسرار عسكرية هامة إلى الموساد، وللتأكيد على رواية الكاتب الإسرائيلي “يوري بار جوزيف” مؤلف رواية (الملاك) والتي تحولت إلى عمل سينمائي تم عرضه على منصة Netflix في أكتوبر عام 2018، ومن جانب أخر أظهر الفيلم الجانب الإسرائيلي في النهاية بمظهر المنتصر بسبب ثغرة ( الدفراسوار) والتي نتج عنها تطويق الجيش الثالث المصري والذي كان قوامه 30 ألف جندي، واعتراف “السادات” بإسرائيل.
السلام رسالة إنسانية ولكن فرق كبير بين أن يكون السلام غاية يسعى إليها كل إنسان كاره للحرب، وأن يصبح مجرد وسيلة وذريعة للتسليم بالوضع الراهن القائم على الظلم والاحتيال، وينتهي فيلم “غولدا” بمشهد مؤثر لطيور ميته على الأرض تلك الطيور التي ترمز إلى السلام وكدلالة على أبناؤها الجنود الذين لم يكونوا إلا دعاة للسلام وتم إجبارهم على الحرب، ولكني لا أستطيع أن أرى هذه الطيور إلا أجساد الأطفال الذين تم قتلهم إبان حكم “غولدا” وبمباركتها، وعلى يد “موشي دايان” وقادة إسرائيل في مذبحة (بحر البقر) في الثامن من ابريل عام 1970، حينما قصفت طائرات إسرائيلية مدرسة بحر البقر بمركز الحسينية بمحافظة الشرقية، مما أدى إلى تدمير المدرسة ومقتل 30 طفلاً وإصابة 50 آخرين ليس لهم أي علاقة بالحرب وليس لهم أي ذنب ليُقتلوا مثلهم مثل أي طفل أو مدني يتم قتله بدم بارد في فترات الحرب حتى وقتنا هذا.