خطر وفرصة وحلم سياسي
الاستماع للمقال صوتياً
|
واشنطن – خاص وايتهاوس
مقال الرأي بقلم نشمي عربي
خلال ترؤس السفير الأميركي المخضرم “إدوارد دجرجيان” لمعهد “جيمس بيكر للسياسة العامة” الذي أسسه كمركز أبحاث فكري عالي المستوى ضمن جامعة “رايس” في “هيوستن-تكساس”، استقبل “دجيرجيان” أحد أهم وأذكى دبلوماسيي الأسد وقتها، في زيارة غير رسمية، وفي حديث ودي (وأكرر غير رسمي) سأل “دجرجيان” ضيفه السوري:
((هل تستطيع أن تلخص لي الفرق بين الأسد الأب والأسد الإبن؟))،
ولأن الضيف كان يتمتع بذكاء عالي وبديهة حاضرة، أجابه على الفور:
((الحقيقة أنني أتوق لسماع رأيك أنت بهذا الخصوص)).
ابتسم “دجيرجيان” لضيفه وأجابه بهدوء شديد:
((كان الأسد الأب إذا شعر برياح عاتية تهب صوبه أو صوب بلده، ينحني بهدوء، ليدع العاصفة تمر، ثم يرفع رأسه بعدها، وكأن شيئاً لم يكن))،
الضيف السوري الذي كان ينصت بهدوء شديد أيضاً، أجاب بلهجة مؤكدة وجدية:
((وأنا متأكد أن الدكتور بشار الأسد ليس أقل حنكةً على الإطلاق من والده))،
هنا فاجأ السفير “دجيرجيان” ضيفه بقوله:
((الأسد الابن إذا حدث وصادف عاصفة تبعد عنه وعن بلده مئات الأميال، يعرف تماماً كيف يضع نفسه وبلده في عين تلك العاصفة التي لم تكن تستهدفهما على الإطلاق)).
لا أعلم بالضبط إذا كان “دجيرجيان” قد وصل لقناعته تلك بناء على موقف محدد أو مجموعة مواقف اتخذها الأسد الإبن، أم أنها مجرد قراءة عامة بعين سفير مخضرم عمل مع ثمانية إدارات أمريكية مختلفة، جمهورية وديمقراطية، امتدت مع الرؤساء من “كينيدي” إلى “كلينتون”، عمل خلالها مساعداً خاصاً للرئيس “ريغان” وخدم سفيراً لبلاده في كل من سورية وإسرائيل، ومساعداً لوزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، ليتفرغ بعد خروجه من الخدمة العامة للعمل البحثي والفكري، إلى جانب ترؤسه لمجلس إدارة شركة “أوكسيدينتال” للنفط، وينشر كتابه المهم:
“خطر وفرصة-مسيرة سفير أميركي في الشرق الأوسط” الذي صدر عن دار “سيمون وشستر” عام 2008.
صحيح أن “دجيرجيان” احتك مباشرةً بالأسد الأب عندما اختاره الرئيس “ريغان” سفيراً لبلاده في دمشق بين عامي 1988-1991، ولم يحتك مباشرةً بالأسد الإبن، ولكنه بقي على تماس مباشر مع قضايا المنطقة بحكم المواقع العديدة التي شغلها، سواء في سلك الخدمة الحكومية أو بعد خروجه منها.
إذا أردت أن أضع حديث “دجيرجيان” عن الأسد الإبن في إطاره الزمني/السياسي فلعل أهم مابنى رأيه عليه كان في موقف الأخير من حرب إدارة الرئيس “بوش” الإبن على العراق، والذي يرى “دجيرجيان” كما العديدين غيره من السياسيين الأميركيين أنها لم تكن تستهدف الأسد الإبن ونظامه على الإطلاق، ومن هنا كان الاستهجان الشديد لموقفه الداعم للمليشيات التي قاومت الوجود الأميركي في العراق، والتي أتت أشد الإتهامات له برعايتها ودعمها على لسان رئيس الوزراء العراقي “نوري المالكي” الذي صار شغله الشاغل تأليب كل مواقع القرار الأميركية على الأسد الإبن ونظامه، قبل أن يتغير هذا الموقف لاحقاً وبالمطلق بعد 2011 وبتعليمات إيرانية، ليصبح “المالكي” نفسه من أشد داعمي النظام، ويرسل هو هذه المرة ميليشياته الطائفية لقمع حراك الشعب السوري وإذكاء صراع أريد له أن يتحول بإصرار من حراك مدني سلمي إلى مواجهة عسكرية شرسة.
لست هنا في وارد الدفاع عن الطريقه التي تعامل بها الأسد الإبن مع الوجود الأميركي في العراق، ولا مهاجمتها، الأيام وحدها ستثبت إذا كان وقتها اتخذ القرارات الصائبة في هذا الشأن، ولكن للحقيقة والإنصاف فأنا أعلم من مصدرين مختلفين على الأقل أنه تعامل مع الموضوع في البداية بطريقة منهجية، فأمر بتشكيل لجنة سياسية عليا برئاسة نائب الرئيس وقتها “فاروق الشرع” وعضوية وزير الخارجية “وليد المعلم” ومسؤولين آخرين، وأوكل لها مهمة وضع التوصيات المناسبه للتعامل مع الموضوع.
كان واضحاً منذ البداية وجود رأيين متعارضين تماماً يسودان الموقف، الأول لين يمثله الوزير “المعلم” وهو يرى بعدم وجود حاجة حقيقية لاستفزاز الأميركيين وفتح مواجهة غير ضرورية معهم، والثاني متشدد يمثله النائب “الشرع” ويدعو إلى مواجهة الوجود الأميركي في العراق لأنه حال تمكنه من السيطرة الكاملة هناك فهو سيوجه جهوده ضد نظام الأسد في دمشق.
المعلم والشرع، الذي عمل الأول مديراً لمكتب الثاني لفترة مهمة، مصنوعان من قماشتين مختلفتين تماماً، ورغم كون الرجلين بعثيين إلا أن (أعراض البعث) تظهر بشكل أكثر وضوحاً وصلابةً مع “الشرع”، بينما تكون في (أطرى) حالاتها مع “المعلم”، رغم ذلك فقد كان لهما ما يبرر موقفهما، ففي الوقت الذي ربما استند “المعلم” فيه لقراءته الدقيقه لواشنطن التي كان قد عاد منها منذ فترة قصيرة نسبياً، وربما بعض التطمينات الغير رسمية من خلال علاقاته التي نسجها بصبر وحرفيه فيها، فقد يكون “الشرع” في المقابل بنى موقفه على التصريحات العديدة من بعض صقور “المحافظين الجدد” في الإدارة مثل “بول ولفويتز” و “دوغ فايث” وغيرهم، والتي كانت تدعو لأن تكون دمشق هي الهدف الأميركي الثاني بعد سقوط بغداد.
هناك من يتحدث أيضاً عن وجود تيار ثالث تحت السطح يمثل تحالف شخصيات عسكرية وأمنية في الدوائر العائليه القريبه من الأسد نسج مع أبناء “صدام حسين” علاقات مالية مخيفة، ظهرت آثارها لاحقاً في تعاملات وانهيارات بنكية في لبنان رصدتها الأجهزة الأميركية، هذا التيار كان بالطبع داعماً لتيار “الشرع” المتشدد، والذي انتصر في النهاية، ومن هنا دخل نظام الأسد (كما قد يكون ارتأى “دجيرجيان” وغيره) دائرة الإهتمام الأميركي الخطرة.
من الممكن إحصاء العديد من القرارات السياسية التي قد تكون ساهمت في خلق صورة الأسد الإبن السلبية في واشنطن، لايغيب عن البال منها قرار التمديد للرئيس “لحود” في لبنان والقطيعه مع “الحريري” وكل ما تلا ذلك من أحداث مأساوية انتهت بخروجه من لبنان.
كما عنون “دجيرجيان” كتابه تماماً “خطر وفرصة” فإن الشرق الأوسط منطقة ملأى دوماً بالمخاطر، ولكنها لاتخلو دوماً من الفرص، وبعض هذه الفرص تأتي من رحم أخطار محققه وأكيدة، وتسبقها أحياناً مآسٍ وأهوال مخيفه.
في موقفه الحالي مما يحدث في غزة وحولها، ينتهج النظام خطاً جديداً مغايراً تماماً لنهجه السابق على مدى سنوات، فهو لأول مرة ينجح في الإبتعاد عن العاصفه، والأهم أنه قلل جداً من تصريحاته الخلافية التي لطالما كانت أحد أهم مشاكله، والتي أوقعته في مواقف لم تكن ضرورية له على الإطلاق، ومن هنا تأتي مشروعية السؤال: هل فعل ذلك بنصيحة وربما توجيه إيراني مباشر؟ أم أنه وصل لمرحلة (الحلم) السياسي المتأخر؟ والذي ليته مارس بعضاً منه في تعامله مع قضايا شعبه؟
أياً يكون الأمر، فإن “الخطر” الآتي من تداعيات ما يجري في “غزة” اليوم قد يشمل الجميع دون استثناء، ولكنه رغم الثمن الإنساني المروع له والذي لايمكن تبريره على الإطلاق، قد يحمل “فرصةً” أو فرصاً للجميع أيضاً.
نجحت إيران بكل تأكيد في فرض نفسها لاعباً مهماً ورئيسياً في المنطقة، وحده يملك القدرة على إطفاء الحرائق، كما على إشعالها، الدور الذي لطالما أغرم به الأسد الأب، ومارسه بصبر وجلد شديدين.
إذا استطاعت المنطقة عبور مرحلة الخطر الشديد، وإيقاف المأساة المؤلمة التي يتعرض لها المدنيين الفلسطينين بأي ثمن، فقد تقوم إيران (التي استطاعت أن تحول خطاب أمين عام حزب الله اللبناني إلى أقل من إعلان تجاري تلفزيوني في قيمته) بالتفاوض من خلال قطر بين كل من حماس وإسرائيل، وقد تكون هناك صفقه كبرى تتضمن إطلاق كل الأسرى وتبييض كل السجون، إذا أثمرت هذه الفرصه فقد تبنى عليها فرص أخرى أشمل وأعم لا أستبعد أن تكون السعودية طرفاً محورياً فيها، بعد أن تمكن الفلسطينيون وبثمن عالي جداً ومؤلم جداً من إعادة قضيتهم للواجهة مرة أخرى، وبعد أن أكدت العمليات الأخيرة أنه لا أمن حقيقي ومطلق ترعاه القوة فقط، الأمن الحقيقي لن يكون إلا بسلام يحقق متطلبات العيش الكريم لكل الأطراف.
إذا كانت الأخطار الكبرى، تحمل معها فرصاً كبرى، فلماذا لا يعيد النظام السوري حساباته بعد أن رأى بما لا يقطعه الشك أن لإيران حساباتها الخاصه بها؟ وأنها من الممكن أن تضحي بأي شيء في سبيل مصالحها هي فقط؟ وأن تعاملها مع ماجرى ويجري في غزة هو خير دليل على ذلك؟
هل يستطيع النظام لمرة واحدة أن يتخذ قراراً جريئاً بالبدء بعملية انتقال سياسي مستحقة ويحتاجها بلده بشدة ولا مخرج من الإنهيار الإقتصادي إلا من خلالها؟
قد يخرج علي الكثير من السوريين (من الطرفين) رافضين مجرد التفكير بهذه الفرضية، وقد يقول واحدهم: (وهل هناك بلوغ لمرحلة الحلم Maturity بعد بلوغ سن اليأس Menopause)؟
وسيكون جوابي لهم: (وهل لديكم مقترحات واقعية بديلة)!؟
شكرا جزيلا صديقي نشمي عربي على هذه الاطلالة على النظام السوري وادواره عبر عقود . المهم انك تتحدث ولديك معلومات من داخل مطبخ النظام بعلاقته مع الامريكيين. اللاعبين الاهم في منطقتنا منذ عقود…
تتحدث عن صمت الاسد الابن وعدم تدخله في قضية غزة…
اقول ان صمت الاسد الابن نابع من موقف ثابت عملي للنظام وهو عدم الاسطدام المباشر مع اسرائيل منذ عقود. والدليل ان كل من واجه اسرائيل في العقود السابقة كان حزب الله وغيره والنظام دوره جعجعة كلامية لفظية…
النظام السوري لم يرد على الاسرائيليين في اي مرة على اعتداءاتهم الدائمة على مواقع ومطارات وكأن ذلك يحصل في المريخ. حتى الرد الاعلامي انعدم..
كما ان تحليلات ومعلومات تقول ان بقاء الاسد الابن في حكم سوريا منذ عام ٢٠١٥ وهو كان قاب قوسين من السقوط امام الثورة السورية المسلحة حصل بتوافق روسي امريكي اسرائيلي على اعلى المستويات.
لكل ذلك لم يعتبر الاسد الابن معركة غزة معركته. هذا غير موقفه العدائي من الاسلاميين وحماس منهم…
بالطبع يضاف لواقع حال سوريا انهيارها الاقتصادي وتقاسمها بين اربع دول روسيا وايران وامريكا وتركيا. وشبه دولة كردية بقيادة الب ك ك. شعب جائع مغلقة بوجهه الابواب وبلاد بيعت للدول التي تسيطر عليها…
ما الذي يستطيع تقديمه الاسد الابن لغزة او للسورييين. ليس لديه ما يقدمه وان كنا متشائمين اكثر فإنه لا يملك من امره شيئا حتى من جهة السيادة في مواجهة روسيا وايران…
لقد اصبح عبئا على سوريا والحل ان يغادر المشهد السوري المؤلم والحزين…
كل الشكر والتقدير صديقي العزيز لقراءتك ولتعليقك الغني والمهم.
نعم النظام لم يعد يملك من الأوراق مايؤهله ليكون فاعلاً في أي لعبة، خصوصاً أنه يعيش حالة انهيار اقتصادي وتفكك اجتماعي حقيقيتان، ولكن ذلك لن ينفي أنه قد يكون له دور في لعبة يفرضها من هم يملكون أوراق أكثر، سواء من قبل داعميه أو غيرهم، ولو في ظل خيارات قليلة وضيقة.
أتفق معك بأن (حلف الممانعه) له حساباته الإقليمية التي قد تختلف بالمطلق عن تطلعات الفلسطينيين، أما علاقة النظام بحماس فقد تخللها الكثير من المد والجزر التي ساعد فيها حقيقة أن الطرفين ميكافيلليين كفاية للقيام بذلك.
لك مودتي وتقديري دوماً.