خواطر أميركية في زمن غير أميركي
الاستماع للمقال صوتياً
|
واشنطن – خاص وايتهاوس
بقلم نشمي عربي
عندما قادتني ظروف العمل لزيارة “الولايات المتحدة” للمرة الأولى منذ ما يربو على ثلاثة عقود، لم أكن أفكر وقتها على الإطلاق بالهجرة إليها يوماً، أولاً لأنني لم أكن مضطراً لذلك، وثانياً لأنني ربما كنت في تلك المرحلة من عمري أكثر إعجاباً بأوروبا، لأسباب متعددة.
زيارتي الأولى للولايات المتحدة (التي لم أخترها) كانت كفيلة بأن تجعلني أكررها خلال فترة قصيرة، بإرادتي الكاملة هذه المرة، وبين الزيارتين وقعتُ في غرام “ماما أمريكا”، وخلال فترة قصيرة انتقلت للعيش فيها بقرار شخصي محض، استغربه أكثر من عرفوني عن قرب.
أعلم أن تعبير “ماما أمريكا” ذو دلالة سلبية عموماً، بدليل تكرار استخدامه من قبل العديدين من منتقدي وكارهي “الولايات المتحدة”،
الناس أحرار فيما يعتقدون فيه ويشعرون به،
وأحرار أيضاً أن يسمحوا لهذا الشعور والاعتقاد بالسيطرة على طريقة تفكيرهم،
نعم، الناس أحرار،
وهذا كان أول درس تعلمته من “ماما أمريكا”،
وأنا من الناس،
وهي بالنسبة لي ماما أمريكا فعلاً،
فهي من عاملتني بكرامه وعدل وإنسانية،
ولم تقف يوماً عند لَكْنَتِي أو ديانتي ومذهبي،
ولا لون شعري وبشرتي،
ولم تطلب يوماً (تقييماً أمنياً) لي ولا لأي من أفراد عائلتي، الأقربين منهم أو الأبعدين،
وسمحت لي ظروف عملي فيها (البعيدة تماماً عن كل ماهو سياسي) أن ألتقي شخصيات من مشارب مختلفه، ماكنت أحلم يوماً أن ألتقيهم، ناهيك عن أن يصبح بعضهم أصدقاء حقيقيين،
وفوق ذلك فالناس فيها لاينظرون لي من خلال عملي الذي أمارسه، أو السيارة التي أركبها، أو البيت الذي أسكنه، والثياب التي ألبسها.
أعلم أن الحديث بإيجابية عن أميركا في هذه الأيام هو بمثابة محاولة انتحار، وأن أسهل ما يمكن وصفه به هو أنه (لايراعي حساسية الموقف) …!!!
لابأس،
فليعدم الموقف (العتيد) هذه المرة حساسية سطوري المتواضعه،
خصوصاً وأن (أشاوس) الكلمة والفكر والفن،
وحتى الرقص،
قد راعوا هذه الحساسية،
بل وكل حساسية أخرى (غير سورية)،
جزاهم الله عنا ماهم أهله …
أما أنا، وبكل تواضع، فستكون مواقفي ومشاعري وأحاسيسي حسب توقيتاتي أنا، لاحسب توقيتات (الولي الفقيه)، ولا غيره، خصوصاً أنني كنت دوماً، كما كثيرين غيري، نكتب مدافعين عن القضايا العربية من واشنطن، عندما كان (الولي الفقيه) وأتباعه ينامون (تِقْيَةً) في سرير “ماما أمريكا” الدافئ، الذي أعده لهم “روبرت موللي” في “مسقط/عُمَان”، ليتوج المشهد لاحقاً بظهور “جواد ظريف” (المظفر) من على شرفة فندقه في “فيينا”، معلناً (المولود سفاحاً) المسمى ب “الإتفاق النووي الإيراني”، الذي لازالت المنطقة كلها، وبلدي الجريح “سورية” تحديداً، يدفعون أثمان مفاعيله …
فلا نامت أعين أصحاب الذاكرة القصيرة …
ولا نامت أعين من يستظلون بجراحات ونكبات “فلسطين” وشعبها المُصَابِر، الذين كانوا دوماً في عمق الوجدان السوري، إلى أن بدأت نكبة السوريين أنفسهم، والتي تزامنت مع تقليعتي (فلسطين أولاً)، و (قضيتي ومن بعدها الطوفان)، اللتان استحوذتا على أغلب اليسار والإسلام السياسي الفلسطينيين، وأغلب رموز السلطة، تزامناً مع دخول (الولي الفقيه) على جراحات المنطقة كلها، بمبضعه الذي لايرحم، والذي يقطر حقداً وكراهيةً لكل ماهو عربي …
ليس سراً على الإطلاق أن أغلب المشاعر المعادية للولايات المتحدة في المنطقة العربيه تستند إلى اعتقاد سائد بعدم توازن الموقف الأمريكي من قضايا المنطقة، وفي مقدمتها موضوع الصراع العربي الإسرائيلي، وأنا في الوقت الذي أتفهم هذا الإعتقاد، بل إنني أرى أن الموقف الأميركي المبالغ في دعمه لإسرائيل دوماً لايخدم مصالح الأمن القومي الأميركية نفسها، ولاحتى الإسرائيلية، وأنه مسؤول ولو جزئياً عن حالة الصلف السياسي الإسرائيلي والإحجام عن أي انخراط فاعل في عملية سلام حقيقي، لاشيء غيره سيحقق الأمن الفعلي لإسرائيل والمنطقه، ولكن ذلك بكل بساطة لن يجعلني أرى في أميركا شيطاناً أعظماً، كما يسميها ملالي طهران، في الوقت الذي يتفاوضون هم معها بكل انفتاح وأريحية، لا بل ويتلطون وراء هذا التفاوض بما يتيح لهم التمدد في المنطقة العربية، والذي أخذ شكلاً حاداً في السنوات العشر الأخيرة، على حساب المنطقة وشعوبها.
موقفي هذا، ومثلي الكثيرين ممن يؤمنون به، ولكنهم قد يتحرجون من التصريح به، لا ينطوي على أي ازدواجيّة، فالدستور الأميركي يتيح للأميركيين حق الإختلاف مع السياسة الخارجية لبلادهم، التي هي عموماً ليست من أولويات اهتماماتهم، وإن كانت كذلك فهي ليست فوق مستوى الإنتقاد من قبل العديد منهم، لسبب أو لآخر.
المشكلة الحقيقية ليست في انتقاد الموقف الأميركي، بل في عدم فهمه، أو تفسيره بشكل مغلوط استناداً إلى مسلمات وبديهيات ليست دوماً دقيقه، وعندما يتم تكرار هذه المسلمات من قبل من يفترض أن لديهم عادةً قراءة معقولة للسياسات الأمريكية، فإن الأمر يستحق التوقف عنده.
ربما كنت من أكثر منتقدي موضوع التفاوض مع إيران حول قدراتها النووية، وكنت ولازلت أرى فيه حالة تكاذب كبرى يتم من خلالها ولأجلها القبول بتمدد إيران إقليمياً في المنطقة، ولكنني لست مقتنعاً بأن إدارتي “أوباما” اًو “بايدن” يفعلان ذلك بقصد دعم تَسَيُّد إيران وإسرائيل على المنطقة، لا من حيث المبدأ، ولا النتيجة، فسياسات واشنطن اتجاه كلا البلدين لايمكن أبداً تقييمها بمقياس واحد، على الإطلاق، بفعل اختلاف شكل ومضمون هذه العلاقة مع كل منهما عن الأخرى، وذلك لأسباب عديدة جداً بعضها تاريخي وسيطول جداً شرحه.
قد يكون منطقياً وواقعياً القول بأن واشنطن والغرب مستفيدون من حالة التناقض والتنافس بين طهران ومحيطها، وليس لديهم مشكلة على الإطلاق في أن تدفع المنطقة كلها ثمن هذه الحاله، شرط ألا تمس أمن إسرائيل أولاً، ولاتصل إلى حد مواجهة إقليمية ثانياً.
الموقف الأميركي مما يجري في غزة وحولها اليوم هو خير مثال على ذلك، وأنا مقتنع تماماً بأن إدارة “بايدن” لديها مشكلة كبرى في التعامل مع “نتنياهو” لعلمهم بأنه ليست لديه مشكلة في تحويل مايجري اليوم إلى مواجهة إقليمية كبرى إنقاذاً لما تبقى له من مستقبل سياسي، في الوقت الذي قد لاتحقق مغامرته تلك أية أهداف حقيقية تساهم في تعزيز أمن وسلامة “إسرائيل”.
أسوأ سيناريو من الممكن أن تتمخض عنه الأحداث الحالية هو أن تكون هناك تسوية جزئيه تقودها طهران، مباشرة أو من خلال أطراف عربيه قريبة منها (ليس النظام السوري من ضمنها)، تحظى برضى أميركي، وقبول اسرائيلي على مضض، يتم من خلالها إطلاق محتجزين وأسرى من الطرفين والمحافظة على الأوضاع كما هي دون أي تغيير حقيقي يذكر،
هذا الأمر هو الذي سيؤكد فرض إيران لاعباً مهماً لسنين قادمة، وربما كان هذا هو الهدف الإيراني الحقيقي لدعمه عملية “حماس” منذ البداية.
أفضل سيناريو يكمن في أن تستطيع إدارة “بايدن” لجم ردات فعل “نتنياهو” من خلال إعطاءه فرصة انتصارات محدودة على الأرض، ترد له ولإسرائيل بعض ماء الوجه، ولكنها لا تؤدي إلى توسيع دائرة المواجهة لتصل إلى حرب إقليمية، ويتزامن ذلك مع تغيير حقيقي في الرؤية السياسية الإسرائيلية وقبول بمبدأ حل الدولتين، مقابل الدخول في ترتيبات اقتصادية مهمة محورها الرياض، تشمل الإسرائيليين والفلسطينيين معاً.
أسأل نفسي دوماً، هل من الممكن أن أكون مخطئاً في قراءتي للموقف الأميركي من إيران عموماً؟ وإدارتي “أوباما” و “بايدن” خصوصاً؟
وأن الهدف الاستراتيجي للإدارتين كان ولايزال فعلاً هو ترجيح كفة طهران في المنطقة؟ على الأقل بفعل القبول بتمددها الإقليمي؟ الجواب على هذا السؤال بسيط ومعقد في آن معاً، وربما يكمن في سؤال أكثر أهميةً..!! فحوى هذا السؤال هي:
هذا التمدد الإيراني في المنطقة، هل يخدم فعلاً المصالح الطويلة الأجل لإيران وشعبها؟
ألم يستنفذ وعلى مر عقود مقدرات إيرانية ضخمة كان من الممكن أن تعيد فرض إيران كقوة فعلية سياسية واقتصادية في المنطقة؟ الأمر الذي ربما أدركه الشاه السابق، وعجل برحيله؟