زمن الطوائف السوري
الاستماع للمقال صوتياً
|
واشنطن – وايتهاوس
2 من 2
بقلم نشمي عربي
في الجزء الأول من هذا المقال ذهبت إلى أن الطائفية كانت أداةً مهمةً من أدوات الحكم، إلا أنها لم تمثل مشروع طائفي حقيقي لحساب طائفه على أخرى، سواءً عند نظام “صلاح جديد” أو “حافظ الأسد” على اختلافهما الشديد، بل إن المشروع الحقيقي الوحيد كان (الإطباق على السلطة) بأي وسيلة كانت، عند “جديد” لصالح الحزب والطبقات التي يمثلها، وعند “الأسد” لصالح “حافظ الأسد” ونقطه على السطر، ربما يبرر ذلك النتيجة التي خلص إليها المقال، في أن زمن الطوائف السوري الحقيقي بدأ بعد رحيل الأسد الأب بأعوام.
لا أعتقد أن “حافظ الأسد” في وعيه الداخلي كان قادراً على تقبل فكرة أن يخلفه أحد في السلطة، حتى ابنه، وأن فكرة (الخلود) التي ابتدعها الرفيق “أحمد اسكندر أحمد” كعماد لبروباغندا البعث لما تبقى من عمر الأسد كانت بالفعل مسيطرة عليه تماماً، لعل استفحال المرض ومحاولة أخيه “رفعت” أن يضمن خلافته أقنعاه بمشروع التوريث كتجسيد لفكرة الخلود، والذي كان بدايةً لحساب ابنه “باسل” الذي عرف كيف يشبهه في كثير من صفاته، خصوصاً وأن أباه أحاطه برجال يشبهونه، ليشاء القدر أن يضع نهاية لهذا المشروع، ويتحول لصالح أخيه “بشار” الذي حرص دوماً على ألا يشبه والده في شيء، بل وقطع كافة الخطوط التي نسجها له كأدواتٍ لحكمه، دون أن يكون قد عمل على بدائل حقيقية لها، وأحاط نفسه برجال (ونساء) لا يشبهون والده، وإن كانوا امتداداً ونتاجاً لنظامه.
يرمز “زمن الطوائف” لحقبة سياسية بدأت رسمياً في الأندلس مع إعلان الوزير الأموي “أبو الحزم بن جهور” عام 422 للهجرة سقوط الدولة الأموية الثانية، والتي كان سقوطها الفعلي قد بدأ قبل ذلك بسنين طويلة، حين طغى ثراء الخلافة ورفاهها، على حساب قوتها واستقرارها، وأزعم أن الأمر نفسه هو ماحصل في سورية مع صعود الأسد الإبن، رغم الفوارق المذهلة بين الحالتين، فالأسد الأب لم يؤسس لأي ثراء اقتصادي أو علمي أو فكري، ولكنه حافظ على فكرة الدولة ومركزيتها، وإن كان بوسائل صارمة تفتقر لأدنى مقومات التقدم، حتى لا أقول العدل، وإن أي ثراء مالي شهدته سنين الأسد الأب، لم يتجاوز دوائر معينة قائمة على فساد منظم، تدير آلياته الدوائر القريبه منه وفقاً لحساباته هو، وبالنسب التي يحددها، رغم ذلك فقد كانت السلطة (ممثلةً في شخصه) هي التي تدير هذه الحالة الإقتصادية النفعية التي استفاد منها كثيرون، على حساب بلد لم يعدم مقومات نهضة اقتصادية حقيقيه، ولكنه افتقدها مع الأب والابن.
برحيل الأسد الأب وصعود الابن أخذت الأمور شكلاً مختلفاً تماماً، تَجَلَّى في تغول وتضخم منظومات الفساد المالي بحيث صارت هي من تدير السلطة، للحد الذي صار فيه من الصعب جداً التمييز بين هذه المنظومات (على مافيوزيتها)، وبنى الدولة الرسمية (على تهالكها وفسادها)، الأمر الذي لم يسمح به الأب يوماً، وأزعم أن استفحاله كان من الأمور التي هيأت لانفجار 2011 مع هَبَّة (الربيع العربي).
كان صعود ظاهرة (آل مخلوف) بشكل مطَّرِد جداً خلال سنوات حكم الإبن الأولى مثالاً واضحاً لتَغَوُّل الثروة على السلطة، فإذا أضفنا له ظاهرة انزياحها من المشهد لاحقاً، لحساب مجموعة عائلات أخرى (تعد اليوم على أصابع اليد الواحدة)، وفي ظل ما خلفته سنوات المأساة السورية من بقايا هيكل دولة لا نكاد نراه، فإننا سنرى أحد معالم (زمن الطوائف السوري) في تجلياته الماليه، وإن كانت تجلياته السياسية قد بدأت بالظهور مع تداعيات ماحصل منذ مارس/آذار 2011، ولانزال نعيشه حتى اليوم، وربما سيستمر لعقود طويلة، بغض النظر عن شكل المآلات السياسية للمشهد السوري، والتي من الصعب جداً التكهن بطبيعتها.
كان التحاق (بعض السوريين) بقطار الربيع العربي متواضعاً، قياساً لما حصل في تونس ومصر، وكانت مطالب السوريين بسيطة وممكنه، والأهم أنها محددة، وتتوافق مع المزاج السوري المحلي، دون أي اعتبار لأجندات غير سورية، بعضها عربي، والبعض الآخر (والأشد خطراً) كان عربياً بتماهٍ واضح وصريح مع أجندة إقليمية واضحة تتبناها دولة إقليمية كبرى تبحث عن دور لها في المنطقة، بعدما خابت مساعيها باتجاه الغرب، في نفس الوقت الذي كانت فيه هناك قوة إقليمية أخرى تتربص بنظام الأسد الإبن بعدما خابت كل مساعيها مع نظام الأسد الأب (رغم العلاقات الجيدة معه ظاهرياً) في أن تعزله عن محيطه العربي وتلحقه بمشروعها الإقليمي بامتداداته الطائفية التي وقف الأب ضدها بكل قوة، بالسر غالباً وبالعلن أحياناً إذاما اضطر لذلك.
بدأ زمن الطوائف السوري الحقيقي عندما طفت على السطح (المعارض) منظمات وتشكيلات تتماهى بالفكر والمراس مع أجندة دولة إقليمية كبرى في المنطقة (بتمويل جهة عربية)، وعندما أصرت بالمقابل قوى فاعله في النظام (تمثل الثروة التي استولت على السلطة) لدفعه باتجاه استئصالي لايقبل بأي جهود مصالحة كانت ممكنة مع شعبه، بل بمواجهة معه بالحديد والنار، اضطرّته فيما بعد للخضوع كلياً لأجندة القوة الإقليمية المقابلة والتي طالما كان أباه حجر عثرة في طريقها، ليس في سورية فقط، بل في المنطقة.
من ارتدادات زمن الطوائف أن السوريين في حراكهم المشروع لتحقيق واقع أفضل ومواجهتهم لنظام يعلم أن هذا الواقع يشكل خطراً عليه، وفي ظل غياب أي رابط حقيقي وطني أو اجتماعي يجمعهم، كفلت سنون الأب العجاف بالقضاء عليه، قد انكفأوا إلى طوائفهم وإثنياتهم التي كانت قد غابت عن الصورة (ولو جزئياً) بفعل قبضة الأب الحديدية، وعادت للظهور لتصبح من معالم المأساة السورية، زاد من حدتها أن الميليشيات التي استقدمها النظام من القوة الإقليمية الموالية له كانت تحمل وعلى رؤوس الأشهاد رايات طائفية وأحقاد وثارات لم تكن يوماً جزءاً من الضمير السوري، على اختلاف أطيافه.
في زمن الطوائف تسود الهويات المذهبية والعرقية وتضعف وتختفي الهويات الوطنية، فيصبح المتناحرون (من الطرفين) أكثر التصاقاً بمذاهبهم وأعراقهم وأكثر بعداً عن أي جامع أو رافع وطني، لعل ذلك يفسر اضطرار أهلنا في السويداء الذين لايستطيع أحد أن يشكك يوماً في وطنيتهم وعروبتهم، أن يستثيروا (حمية بني معروف) لإذكاء حراكهم الوطني في وجه نظام بات عاجزاً عن تقديم أدنى مقومات الحياة لهم.
قد تكون (العصبية الدرزية) التي يوظفها أهلنا في السويداء اليوم لجمع شملهم وشد أزرهم في مواجهتهم المفتوحة مع النظام هي أحد مظاهر زمن الطوائف، ولكنها قطعاً ليست المسؤولة عنه، بل ربما كانت أحد نتائجه، وإن كانت نجحت بتفوق في عدم الوقوع فيما وقعت به (الحميَّات الأخرى) من أخطاء كارثية فادحة أضعفت الحراك السوري المعارض ووسمته بسمات لم ولن تكون يوماً في صالحه.
في زمن الطوائف يصبح السوري (المعارض والموالي) كردياً وشركسياًً وآشورياً وتركمانياً وسريانياً وسنياً وأشعرياً وعلوياً ومسيحياً أولاً، و(قد) تسنح له الفرصة آخر النهار ليتذكر أنه سوري.
في زمن الطوائف صرنا نسمع تسميات مثل (أبوفلان السني) و (فلانه السنية)، لايعلم مطلقوها أنهم أول وأكبر من يدفع أثمانها.
زمن الطوائف السوري يحمل كل صفات ضعف وتفكك زمن الطوائف العربي في الأندلس، ولكنه لم يحمل إلينا (معتمداً) واحداً يرضى بأن يكون ((راعي غنم عند “بن تاشفين” في مراكش، على أن يكون راعي ختازير عند “ألفونسو وإيزابيلا”)).
اجاز الاستاذ نشمي بشكل عام بتوصيف الحالة الطائفية التي وصلت بسورية
والبعد الوطني لحراك السويداء المعلف بغطاء مذهبي
كل الشكر والتقدير لك صديقي العزيز، وكل التقدير لأهلنا في السويداء الذين استطاعوا أن يحولوا (الخصوصية الدرزية) إلى BRAND وطني بامتياز.