لو كان الدرب سالكًا إلى دمشق يا خالد!
الاستماع للمقال صوتياً
|
ثقافات – وايتهاوس
بقلم تهامة الجندي
يتلقى ملايين السوريين خبر رحيل أحبتهم وهم في المنفى، يبكون طويلًا، ولا يستطيعون حتى إلقاء نظرة الوداع على من فقدوا.. ديكتاتور الشَّام يغلق الأبواب دونهم، ويفتحها لمن يتقن إيذائهم وقتلهم. وفي الثلاثين من أيلول الماضي صُعق سكان العالم الافتراضي بوفاة خالد خليفة وحيدًا في منزله، وهو في أوج عطائه، لم يتجاوز التاسعة والخمسين، ولو كان الدرب سالكًا إلى دمشق لأُقيمت له أكبر جنازة عرفها كاتب سوري.
الفقدُ موجع وحركة الذكريات تثقب القلب، أراني في مقهى “فندق الشام” أجري حوارًا مع خالد خليفة في الشهر الأخير من عام 2001. حينها كان في السابعة والثلاثين، وكان في رصيده الأدبي رواية “حارس الخديعة” و”دفاتر القرباط”، وسيناريو مسلسليّ “سيرة آل الجلالي” و”قوس قزح”.
أذكر كم كان صديقي عميقًا في تصوير الاستبداد والقهر، كم كان حرًا وقادرًا على تحدي العقبات والرقابات، وكيف صعد سلم الشهرة بجدارة عملًا إثر عمل. أستعيد حديثه وانتبه أنه قال في الختام: “لن أكتب أكثر من أربع أو خمس روايات”، وكانت روايته الخامسة، ما قبل الأخيرة “الموت عمل شاق”.
ارقد في سلام يا خالد على التراب الذي تحب، واستنشق عبير الياسمين، أحرار السويداء رفعوا صوركَ في “ساحة الكرامة”، وحين تعود الشَّام إلينا، سوف نطلق اسمك على أجمل ساحات الحرية.
هذا حوارنا، أعيد نشره لأني أعتقد أن أفضل تكريم للكتَّاب الراحلين هو في إعادة نشر أعمالهم وتصريحاتهم لوسائل الإعلام، وإعادة قراءتها من جديد:
س: تعددتْ عوالم الكتابة التي خضتَها، من الشعر إلى الرواية إلى الصحافة فالدراما التلفزيونية، هل هو الفشل، أم هي الرغبة في التجريب واكتشاف قدرات الذات وميول الروح؟
ج: بدأتُ بكتابة الشعر، لكني اكتشفت في وقت مبكر بأنني لن أضيف شيئًا مهمًا على هذا الصعيد. كانت الأحلام الغامضة تنتابني حول كتابة الرواية، وأذكر أنني أثناء دراستي الجامعية أنجزت أول محاولة فاشلة ولم تنشر، وكان الشعر وقتها تحوَّل بالنسبة لي إلى مجرد تمرين لغوي وتحضير لما سأكتبه فيما بعد، ولا أعرف ماذا سيكون؟ وكانت الرواية، أحسستُ بأنه من الممكن أن أقدم كل ما لدي من خلال هذا الفن العظيم، ولا أدري حتى الآن، وبعد روايتين إن كنت أصبت بهذا القرار أم أخطأت؟
أما عن انتقالي إلى السيناريو فلا اسميه انتقال، لا تزال حالات الشعر تنتابني، وأتعاطى معها كهاوٍ، ولا أزال أكتب الرواية بنفس الشغف رغم أن أوقاتي كتابتي لم تعد مخصصة بالكامل لها. السيناريو أصبح شريكًا لا بد من وجوده لأسباب عدة، أولها حاجتي إلى المال، وثانيها على ما يبدو أني تورطت أكثر مما يجب في هذه المهنة التي لا أنكر أنها قدمتْ لي الكثير من الأفكار، وغيرت عندي بعض مفاهيم الكتابة.
س: وماذا عن تجربة النصوص المفتوحة التي كنت متحمسًا لها؟
ج: لم أعد متحمسًا لهذا الطرح، وإن كنت في فترة وجودي في مجلة “ألف” شاركتُ بالحديث والتجريب والتنظير لهذا النوع من الكتابة. أميل الآن إلى ذلك التقسيم الفني، ولا آتي بأي جديد إن قلتُ بأن الرواية قد تستفيد من كل الأجناس الأخرى وتمنحها نفس الفائدة. الأمور متداخلة بين الاجناس الأدبية، لكن ليس إلى درجة التماهي وفقدان الخصوصيات التقنية لكل فن.
س: متى بدأ هاجس الكتابة ينتابكَ، وما هي محرضاته؟
ج: الحديث عن هاجس الكتابة يحتاج إلى أوقات أفضل ومساحات أوسع من هذا الحوار، لكن يمكنني أن أقول بأني بدأت الكتابة مبكرًا، وإلى هذا اليوم لا أعرف لماذا أصبحتُ كاتبًا، وإن كنتُ أدرك تمامًا بأنه لا يمكنني أن أكون سوى كاتب، ولن أستطيع ان أكون غير ذلك، ولم أحلم بمهن أخرى على الاطلاق.
س: أليستْ جرأة منك أن تبدأ تجربتكَ الأولى في كتابة الدراما التلفزيونية بمسلسل طويل مثل “سيرة آل الجلالي” في الوقت الذي عودنا غيركَ من الكتَّاب أن يستهلوا مشوارهم بسهرة أو ثلاثية؟
ج: أنتم لا تعرفون إلا ظاهر الأمور، قبل “سيرة آل الجلالي” كانت هناك الكثير من التجارب التي اعتبرتها فاشلة، لذلك لم يكن هناك أي مبرر لعرضها أو توقيعها، لكني بالمقابل أؤكد بأني لا أستطيع مطلقًا أن أعمل وفق خطوات التلامذة، وإن كنت لا أرغب بالعمل بمفاهيم الأساتذة، وقد اعتقدت بأن “سيرة آل الجلالي” من الممكن أن يكون عملًا طويلًا يستحق الإقدام، وكتبته في اللحظة التي شعرت فيها بأنني أنهيت تماريني الأولى، وامتلكت الأسس الأولية لعمل السيناريو التلفزيوني.
س: لماذا استقيت مناخات عملك الاول من البيئة الحلبية وأجواء السوق، هل لكونك وُلدتَ ونشأتَ في حلب؟
ج: في العمل الأول يجب أن نبحث دومًا عن ضمانات لنجاحه، وفي “آل الجلالي” كانت البيئة الحلبية التي أعرفها جيدًا، والسوق الذي أعتقد أنني أعرف الكثير عن تفاصيله وعلاقاته الخفية، وليس هنا المجال للحديث عن مصدر هذه المعرفة، فأنا لم أكن مراقبًا فقط، بل كنتُ باحثًا ومتأملًا ومتورطًا في العيش مع من يعمل في هذا السوق.
س: من الدراما المعاصرة الطويلة ذات الموضوع الواحد والخلفيات الاقتصادية، انتقلت في “قوس قزح” إلى مسلسل ذي موضوعات متعددة تطغى عليها الحالات الانسانية الشفيفة، فماذا تحدثنا بهذا الخصوص؟
ج: سيستغرب الجميع ما أفعله عن تصميم، فأنا كاتب يسعى نحو الاحتراف بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، والأعمال التي ستظهر لي بعد “قوس قزح”، وهي أربعة مسلسلات، كل واحد منها مكتوب بتقنية مختلفة وينتمي إلى نوع تلفزيوني مختلف، “نقطة تحت السطر” الذي سيُصور خلال أسابيع في استوديوهات المدينة الإعلامية بعمان ينتمي إلى ما يُسمى بدراما الموقع الواحد، وإلى الكوميديا الخفيفة وكل ما يعنيه العمل في الأستوديو. أما “الوردة الأخيرة” فإنه ينتمي إلى نموذج ما يُسمى بالدراما التاريخية، ولن أتحدث عما تبقى لدي، إلَّا أني سأقول بأني تجولتُ عن قصد في كل أنواع الدراما، كي أستطيع القول فيما بعد بأنني أصبحت كاتب سيناريو تلفزيوني محترف. أعتقد أن العمل في التلفزيون يجب أن يهيأ له مفهوم الاحتراف، والسيناريو يحمل في طياته صناعة كاملة يجب ألا نخاف من وضع أسس لها بدعوى الابتعاد عن الفن، فأنا حقيقة لم أعد أرغب بسماع تنظيرات من لا يعرف أسس هذه الصناعة.
س: إذا كانت البيئة التي نشأت فيها شكلت منطلق مسلسلك الاول، فإن التجربة الشعرية كانت حاضرة في المسلسل الثاني، فماذا تقول؟
ج: يسرني سماع هذا الرأي، ولن يغيب الشاعر عن كل أعمالي، وإن كنت أعلم أن وجوده يعيقني، فأنا أراقب نصوصي قبل الآخرين، وفي الأعمال الإبداعية الجماعية كالتلفزيون أو السينما قد لا يتلمس الشركاء مواقع الشعر تبعًا لثقافاتهم المتنوعة المستويات، لكن من حسن حظي أن مواقع الشعر التي كانت موجودة في المسلسلين لم تغب عن شريكي المخرج هيثم حقي، فهو لم يكن يحتاج إلى توضيح مني، ثقافته الفنية والمعرفية والحياتية جعلت من السهل علينا أن نتفاهم، وإن كان بصمت، وهذا على ما أعتقد أعلى مراحل التفاهم بين الشركاء.
س: بما أنك أكدتَ أنك ستخوض في كل أشكال السيناريو، فهل تنوي تحويل إحدى رواياتك، أو إحدى الروايات التي أعجبتكَ إلى سيناريو؟
ج: لن أكتبَ في حياتي خمسين رواية، كل ما سأكتبه أربع أو خمس روايات، وأحب أن يبقين في ذاكرتي كروايات وعوالم مفتوحة على التخييل، لكن من الممكن أن أفكر بتحويل روايات أعجبتني لكتَّاب آخرين، فهذا جزء من عملي كسيناريست.
حُرّر في دمشق ونُشر لأول مرة في 30/12/2001