نوبل الأدب: الحركة حياة والتغيير أنبل من الديمومة
الاستماع للمقال صوتياً
|
ثقافات وايتهاوس
بقلم تهامة الجندي
“واقفةٌ هناك فوق السد على الضفة، أحدقُ في التيار، أدركتُ أن الشيء المتحرك –رغم كل المخاطر- يظل دائماً أفضل من الشيء المستكين، أن التغيير يظل دائماً أنبل من الديمومة، أن الساكن سيتفكك ويتحلل، يتحول إلى تراب بينما المتحرك قادر على البقاء إلى الأبد” تكتب أولغا توكارتشوك في روايتها “رحّالة”، وهي تستعيد مشهداً من ذاكرة طفولتها.
الرواية أشبه بمدونات السفر، تطوف بنا في عوالم وثقافات متباينة، لقاءات ومصادفات في محطات العبور، جولات في المدن والمتاحف وجوالون من مختلف الجنسيات، صور من الواقع وشذرات من الذاكرة وقصص من التاريخ، قراءات واقتباسات وتداعيات، وكل المفردات والمعاني تتشابك في تأملات حول مفهوم الحركة باعتبارها أساس المعرفة وجوهر الحياة والحرية، جوهر طالما حاربته الديكتاتوريات بسعيها إلى تثبيت البشر في أمكنة مغلقة ومعزولة عن بعضها من أجل إخضاعهم واستلابهم.
سرديات تقتفي أثر المسافرين والمهاجرين بعناوين وموضوعات مختلفة تتوزع على أكثر من خمسمئة صفحة، بعضها لا يتجاوز بضعة سطور، وبعضها يستغرق عشرات الصفحات، تأخذنا من لقاء عابر بكاتبة عربية تدعى ياسمين على متن الطائرة، إلى محاضرة تلقيها امرأة في المطار عن “تاريخ أسس علم السفر”، تشير إلى أن حالة الجزيرة تمثل “أولى حالاتنا السابقة على التآلف الاجتماعي، وأكثرها بدائية، حالة بقاء المرء داخل حدوده غير مثقل بأي تأثير خارجي”.
وتتشعب المسارات من كونيكي الرجل البولندي الذي اختفت زوجته وطفله أثناء رحلتهم في جزيرة فيس الكرواتية، وحتى كتاب “تطور التشريح في القرن السابع عشر” وحياة العالم الهولندي فيليب فيرهابين، مروراً برسائل جوزفين سليمان فون فويشترسليبن إلى إمبراطور النمسا من أجل تسليمها جثة والدها المحنط في القصر، وصولاً إلى إساءة معاملة البشر للحيوانات في كل أرجاء العالم.
حكايات متناثرة لا جامع بينها سوى الحركة الداخلية والخارجية للشخصيات في المكان، حركة الكائن في ذاته وذاكرته، وحركته في العالم المتحرك من حوله، ولكل مسافر زمنه الخاص “مجموعة أزمنة في زمن واحد، أرخبيلات من النظام وسط محيط من الفوضى”.
إنه الزمن الذي ينتجه التواجد في المحطات والمطارات التي باتت أشبه بمدينة لها دستورها وقوانينها المكتوبة على بطاقات السفر، ولها فضاؤها من الحدائق والمطاعم والفنادق والمعارض والمحال التجارية، المواطنون هم المسافرون، عناوينهم أرقام مقاعدهم، والأسئلة المتداولة فيما بينهم للتعارف هي: من أين أنت؟ من أين أتيت، وإلى أين تذهب؟.
حكايات منفصلة ومتداخلة من الماضي والحاضر، يصعب تصنيفها في جنس أدبي أو تقييدها بضوابط النقد، أحيانا تبدو بسيطة حد السذاجة، وفي أغلب الأحيان تدهش القارئ بتفاصيلها وعمق تأملاتها، ولعل أفضل توصيف لها ما كتبته المؤلفة بنفسها عن نصوصها: “في كتابتي كانت الحياة تتحول إلى قصص غير مكتملة، حكايات حُلمية تظهر من بعيد في مناظر بانورامية مفككة، أو في مقاطع عرضية، وهكذا يصبح الوصول إلى أي استنتاجات بشأن الصورة الكلية أشبه بالمستحيل”.
إنها بصمتها الإبداعية الخاصة التي تضافرت على بلورتها ظروف نشأتها وموهبتها الخالصة، فأولغا توكارتشوك (Olga Tokarczuk) كاتبة وناشطة مدنية بولندية من مواليد 1962، خريجة كلية علم النفس في مدينة وارسو، وهي تكتب في وصف تجربتها الجامعية: “درستُ في مدينة شيوعية كبيرة وكئيبة، في مبنى كان مقراً لإحدى وحدات النخبة الألمانية (إس إس) أثناء الحرب، أُنشئ ذلك الجزء من المدينة على أطلال الغيتو”، “هنا علمونا أن العالم قابل للتوصيف، بل والتفسير عبر الإجابات البسيطة عن الأسئلة الذكية”.
مكان شُيد على أنقاض الضحايا من اليهود والغجر، ولعل الكاتبة وجدت خلاصها بالترحال، وبالنظر إلى الحياة بوصفها رحلة كي تنجو من أشباح الماضي، فقد مارست اختصاصها في عدة أمكنة ولم تنجح كثيراً في مهنتها، فانتقلت إلى عالم الكتابة وهي تدرك أنها مهنة مضنية بل “وإحدى أسوأ طرق شغل الوقت، عليكَ أن تبقى داخل نفسك طوال الوقت في حبس انفرادي”. أصدرتْ مجموعة شعرية، ومجموعتين قصصيتين، وثماني روايات، وحازتْ كتبها على ترحيب القراء والنقاد، وفازت بعدة جوائز عالمية أهمها جائزة نوبل للآداب عام 2018، وإلى ذلك فهي تقوم بالإشراف على مهرجان أدبي في جنوب بولندا.
صدرت الطبعة الأولى من روايتها “رحَّالة” (Bieguni) عام 2007، وحازت على جائزة مان بوكر الدولية في عام 2018، وفي نفس العام قام إيهاب عبد الحميد بترجمتها إلى العربية وصدرت عن دار التنوير. وفي كل مكان من الرواية نقرأ أفكار وتأملات وتوصيفات مثيرة للاهتمام والدهشة حول علاقة المؤلفة بالزمن والمكان من مثال: “لم أرث ذلك الجين الذي يجعلك حين تقضي بعض الوقت في مكان ما تسارع بضرب جذورك فيه، حاولتُ مرات عدة لكن جذوري كانت دائماً ضحلة، أوهى نسمة تطيح بي، طاقتي تُستمد من الحركة، من رجرجة الحافلات، قعقعة الطائرات، اهتزاز القطارات والعبارات”. “لم أرغب في اعتناق آراء ثابتة فهي أشبه بالوزن الزائد في رحلات الطيران”. “أشتري كتبي في نسخ ذات أغلفة ورقية حتى أستطيع تركها من دون ندم على رصيف المحطة، ليأخذها شخص آخر، أنا لا أجمع أي شيء”.
كتاب مدهش بفكرته يلتقط الحياة في حركتها المستمرة بوصفها رحلة في الذات والزمن والمكان، رحلة تنتهي بالذبول والعزلة الاجتماعية حتى يكاد الإنسان يبدو وكأنه كائن غير مرئي، وتشير المؤلفة إلى أننا جميعنا في سنوات الشباب كنا ننظر إلى علامات التقدم في السن وكأنها داء يصيب الشخص عقاباً على ذنب ارتكبه، ونعتقد أننا سوف نجد طريقة ما للنجاة، إلى أن تدركنا الشيخوخة ونصبح غير مرئيين، نمر بالآخرين ولا يلحظون وجودنا.
تعليق واحد