الغائبون.. خسارات فوق الوصف
الاستماع للمقال صوتياً
|
مقال الرأي – خاص وايتهاوس
بقلم تهامة الجندي
“اختفاء شخص عزيز دون معرفة مكانه أو مصيره يجعل حياتنا عزاءً مفتوحاً… لا تسعني اللغة لوصف ما مررت به من انكسارات وخيبات… خسارتي أكبر من أن تُدون ببضع سطور. فأنا فقدت الزوج والحبيب والسند. خرجت من بلدي أحمل بين يدي طفلاً بعمر سنتين”. تكتب غدير نوفل على موقع “مسار” في ذكرى اختطاف شريك حياتها فراس الحاج صالح.
وفراس من مواليد عام 1972، ينحدر من أسرة معارضة عريقة، ومن الناشطين السلميين البارزين في الثورة السورية، ما أدى إلى فصله عن العمل، وتهديده بالقتل، واعتقاله مرتين من قِبل أجهزة النظام السوري، قَبل أن ينتقل إلى المناطق المحررة، ويختفي أثره بعد أن اختطفه عناصر ملثمون من تنظيم “داعش” بتاريخ 19 تموز 2013 في الرقة.
في الثامن من تموز الجاري كتب عامر مطر على صفحته في فيسبوك لشقيقه الأصغر: “اليوم عيد ميلادك يا محمد نور، كل عام وأنت معنا حتى بغيابك، كل عام وأنت بخير وسلامة وين ما كنت”. ومحمد نور كان ناشطاً إعلامياً ومدير مؤسسة “الشارع للإعلام والتنمية”، سبق أن استجوبه أمن النظام السوري، واعتقله تنظيم “داعش”، قبل أن يختفي وهو يغطي بعدسته حدث تفجير مقر كتيبة “أحفاد الرسول” الذي نفذه “داعش” في مدينة الرقة يوم 13 آب 2013.
ولعل عام 2013 كان واحدًا من أخطر الأعوام على حياة المدافعين عن سوريا المدنية الديمقراطية. ففي ذلك العام شهدت المناطق المحررة ما لم يكن ببال أي من المشاركين في الثورة السورية والمؤيدين لها، فقد قام تنظيم “داعش” بإعدام الطفل محمد قطاع (14 عاماً) ميدانياً بتهمة الكفر، في حي الشعار بحلب، يوم التاسع من حزيران 2013. وبدأ بتطبيق أحكام الجلد والرجم وإلزام الإناث بارتداء النقاب في الأماكن العامة، كما اختطف المئات من المعارضين له بتهمة العمالة، تمهيدًا لبسط سيطرته والإعلان عن قيام “دولة الخلافة في العراق والشام” أواخر حزيران 2014 بزعامة أبو بكر البغدادي.
في ذاك العام المشؤوم، وقبل أن يُطبق تنظيم “داعش” سيطرته على محافظة الرقة، قام باختطاف: عبد الله الخليل، ابراهيم الغازي، عبد الإله الحسين، اسماعيل الحامض، أسامة وحسام الحسن، هيثم الحاج صالح، مهند الفياض، والأب باولو دالوليو الذي زار المدينة، وقصد مقر “داعش” في 29 تموز 2013 من أجل التوسط للإفراج عن الصحفيين الأجانب، ولم يظهر منذ ذلك الحين.
قبل أن يخسر معركته في حلب أواخر عام 2013، قام تنظيم “داعش” كذلك باختطاف عضو المكتب الميداني في حي بستان القصر والكلاسة وائل ابراهيم في 11 آب من مظاهرة في حي السكري. وبعد يوم اختطف التنظيم سمر صالح وخطيبها محمد العمر في الأتارب أثناء إعدادهما تقرير إعلامي عن المجالس المحلية في المدينة، ثم اختطف طبيب العظمية محمد الأبيض لدى خروجه من مشفى “أطباء بلا حدود” في أعزاز، وعُثر على جثته بالقرب من بلدة دير جمال في 3 أيلول. وفي 7 تشرين الثاني 2013 اختطف الإعلامي عبد الوهاب الملا الذي كان يقدم البرنامج الانتقادي الساخر “ثورة 3 نجوم” على قناة “حلب اليوم”.
المفارقة أن كل الشخصيات المذكورة أعلاه كان لها حضورها الفاعل والمؤثر في الثورة السورية، وجميعهم كان مطلوباً لأجهزة النظام السوري، وحتى تكتمل أركان الكارثة انتهى ذاك العام باختطاف فريق “مركز توثيق الانتهاكات” رزان زيتونة وسميرة الخليل وناظم حمادي ووائل حمادة، في 9 كانون الأول 2013 من دوما التي كانت حينها تحت سيطرة “جيش الإسلام”. وبالرغم من مرور عشر سنوات على خطفهم لم يُكشف عن مصير أي منهم، ولا تزال غصة غيابهم الطويل تكوي قلوب ذويهم.
جرائم الخطف والإعدام التي ارتكبها تنظيم “داعش” لم تقتصر على السوريين، ولم تتوقف منذ تغلله في المناطق المحررة وحتى الإعلان عن هزيمته على يد قوات “التحالف الدولي” أوائل عام 2019. ففي عام 2012 اختطف التنظيم الصحفي البريطاني جون كانتلي، وفي 15 تشرين الأول 2013 اختطف فريق قناة “سكاي نيوز” العربية المكون من الصحفي الموريتاني اسحاق مختار والمصور اللبناني سمير كساب، ومرافقهما السائق السوري عدنان عجاج. عام 2014 أعدم التنظيم الصحفيين الأمريكيين جميس فولي وستيفن ستولوف وعامل الإغاثة البريطاني ديفيد هينز. وفي العام التالي أعدم الصحفيين اليابانيين كينجي غوتو وهارونا يوكاوا والإعلامي السوري ناجي الجرف. فيما نجا الصحفي الياباني جومبي ياسودا المختطف ما بين الأعوام (2015-2018)، وتمكن من الفرار الصحفي الجنوب أفريقي شيراز محمد (2017-2019).
والأسماء التي سبق ذكرها ليست سوى عينة صغيرة عن قرابة ثمانية آلاف معتقل في شبكة مراكز الاحتجاز التي كان يديرها تنظيم “داعش”، وعددها 152 مركزاً وفق “المركز السوري للعدالة والمساءلة”. والغريب أنه بعد مضي أربعة أعوام على هزيمة التنظيم، لا يزال الغموض يلف مصير هؤلاء.
أين هم، هل وقعوا في قبضة النظام السوري، أم سُلموا لـ “هيئة تحرير الشام”، أم ضاعوا بين الداعشيين المعتقلين في سجون “قسد” والعراق؟ هل قُتلوا، أم لا يزالون أحياء في منطقة ما من هذا العالم؟ التحقيقات لم تُسفر عن إجابات أو نتائج تُذكر، لكن الواضح للعيان أن جرائم “داعش” العابرة للجنسيات والحدود، كان لها بالغ الأثر في تشويه صورة الثورة السورية، والتمهيد لتعويم نظام الأسد من جديد.
ملف “مخطوفي داعش” لا يختلف ولا ينفصل عن ملف المختفين قسرياً في السجون السورية، وعددهم 150 ألف من السوريين والأجانب، المدنيين والعسكريين، الأطفال والنساء والشيوخ، 86% منهم في سجون الأسد، والبقية في سجون “قسد” و”هيئة تحرير الشام” والفصائل المقاتلة الأخرى. وجميع الأطراف تتبع نفس أساليب المراوغة والتضليل لإخفاء الحقيقة، ويبقى أمل الضحايا وذويهم معلقاً على مدى قدرات وفاعلية “الهيئة الدولية للبحث عن المفقودين في سوريا” التي أُقر إنشاؤها في 29 يونيو من هذا العام.