آخر التحديثاتأبرز العناوينأوراق استراتيجية

من الصعب الجدل مع الصين حين تكون الدائن الأكبر

الاستماع للمقال صوتياً

جذور وآفاق العلاقات الأميركية الصينية

(1)

دراسة على أجزاء بقلم يعرب صخر

إن ما يعج به عالمُنا المعاصر من صراعٍ على النفوذ وتسابق محموم للسيطرة والهيمنة، وما يشهده حاضرنا من حروبٍ باردة متجددة نظراً لعودة التعددية القطبية وتقلُّب مراكز القوة، بالإضافة لتغير طبيعة الصراع العالمي الى النزاع الإقتصادي والسيطرة على الأسواق، مع نهاية البروليتاريا وتراجع العقائدية وتسيُّد العولمة بجميع وجوهها… كل ذلك وغيره، مسَّ بطبيعة العلاقات الدولية بين الدول ووسمها بملامح جديدة وخاصة.

هذا بالذات ما دفعني لتناول العلاقات الدولية بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، هاتان الدولتان العظميان اللتان تمثلان ما قلناه أعلاه، وتحويان وتجمعان كل التعاون والتناقض في نفس الوقت، وتختصران الطبيعة الحديثة للصراع، وتتحكّمان بآفاق المستقبل العالمي والنظام الدولي، محورها الرئيسي العامل الإقتصادي والسعي للتحكُّم بمفاصله ومفاتيحه؛ وبالتالي ما قد يجرُّ ذلك الى التحولات الأمنية وتأثيراتها العالمية.

تشكل العلاقات الأمريكية – الصينية نمطا فريدا من العلاقات الثنائية، كونها تجمع عناصر متناقضة كالتعاون والصراع في وقت واحد، حيث تعمل في إطار توازن دقيق من المصالح المتبادلة والتهديدات المتوقعة؛ يميّزها العامل الإقتصادي والمالي بتفوُّق ملحوظ على باقي العوامل المهمة الأخرى: العسكرية، التكنولوجية، الجغرافية، الجيوبوليتيكة، والمجال الحيوي…الخ . وغالبًا ما توصف اليوم بأنها العلاقة الأكثر أهمية في العالم، وأحيانًا توصف بالعلاقة بين الاثنين الكبار أو(G-2)، باعتبارها العامل المؤثر الرئيسي في النظام الدولي.

عند دراستنا لموضوع العلاقة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، فنحن ندرس العلاقة بين دولة عظمى (الولايات المتحدة الأمريكية) وأخرى تسعى إلى لعب دور عالمي وخاصة في ظل تراجع الدور الأمريكي منذ بدايات القرن21، وبدء تحول النظام الدولي إلى نظام متعدد الأقطاب؛ حيث ستكون الصين أحد الأقطاب الرئيسية وخاصة أنها تملك جميع العناصر التي تؤهلها للعب هذا الدور من (عناصر عسكرية، اقتصادية، جغرافية، .. الخ.

تُرى ما الإشكالية التي تتحكّم بالعلاقات بين البلدين؛ لناحية تقاربها أو تباعدها. كيف تنسجم هذه العلاقة بوجود قيم وعقائد مختلفة؟ أتناقضت مع الدب الروسي وانتهت بانهياره، وتصلح الآن مع التنين الأصفر؟!! وإذا كانت مرتكزات السياسة الصينية تقوم على عدم المواجهة، فما هي مرتكزات السياسة الأميركية؟ أتقوم على الإحتواء أم على الإندماج أم على كليهما؟ لكن التساؤل المقلق الأهم هو: هل ستشهد هذه العلاقة ملامح تغير وانعطاف سلبي في ظل الإستراتيجية الأميركية الجديدة المسماة الباسيفيكية؟ هل هذا عزل وإحاطة للصين؟ أم تقارُب وتكامل معها لتثبيت المصالح الإقتصادية المتبادلة؟ وبالتالي؛ أصحيح أن المشاركة الإقتصادية بينهما أصبح انفكاكها صعب وباهظ التكاليف على كليهما؟ وما هي ملامح المقاربة الإستراتيجية الجديدة؟ وما هي الغايات المراد تحقيقها؟ وهل تملك الولايات المتحدة الأمريكية إمكانية فرض عصر باسيفيكي دون الوقوع في محظور المواجهة مع الصين في وقت يرى فيها الصينيون أن نظاماً عالمياً جديداً في طور التشكّل، وهم يريدون أن يلعبوا دوراً تأسيسياً في إرساء دعائمه، وليس فقط في إدارة النظام المالي العالمي”، كما صرّح وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر لصحيفة “كريستيان ساينس مونيتور” ومقالته بعنوان تحولات القوة؟

المسار التاريخي وتقلب العلاقات

إن الطبيعة الاستثنائية والخصوصية التي تتصف بها العلاقة الأمريكية- الصينية ليست شيئًا جديدًا؛ حيث دخلت الولايات المتحدة آسيا في نهاية القرن 19 بموقف مختلف عن الأوربيين؛ ففي حين كانت الدول الأوربية – مع سعي اليابان لمضاهاتها- تريد جميعًا إنشاء مستعمرات ومناطق نفوذ – كانت الولايات المتحدة عام 1899 في عهد الرئيس مكينلي (ولايته بين عامي 1897-1901) تدعو إلى نهج الباب المفتوح مع الصين، وكان المطلوب من هذه الأخيرة أن تكون منفتحةعلى الوجود الأجنبي والتجارة.

لم ترقَ أمريكا قط إلى مستوى ادعاءاتها؛ فقد أصاب الرئيس ويلسون (1913-1921) الوطنيين الصينيين بخيبة أمل كبيرة في مؤتمر فرساي عام 1919م، عندما أعطت المعاهدة الناتجة عن المؤتمر شبه جزيرة شاندونج المنزوعة من ألمانيا إلى اليابان، بدلاً من إعادتها إلى الصين.

لكن إدارة الرئيس هوفر (1929-1933) وخليفتها (إدارة الرئيس روزفلت 1933–1945) قدمتا للصين مساعدات غذائية كبيرة جدًّا خلال المجاعة الكبرى، ودعمت شيانغ كاي شيك في حملته ضد أمراء الحرب المحليين، والمسماة المسيرة نحو الشمال. ودعمتها كذلك ضد اليابان خلال حرب المحيط الهادي؛ من خلال إرسال معونات عسكرية ضخمة.

وبعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية في 1949، تفاوتت مواقف الصين من أميركا ؛ فالجنرال تشانغ كاي شيك كان يمارس الضغط عليها ويتملقها، فيما كان ماو تسي تونغ والشيوعيون غير معادين لأمريكا، كما تعامل تشو إنلاي (أول رئيس وزراء لجمهورية الصين الشعبية بين عامي 1949-1976) مع الأميركيين . ولكن الحرب الكورية (1950-1953)، التي بدأها ستالين بطلب من كيم إل سونغ، وبدعم من ماو، غيرت كل ذلك، مع تنفيذ سياسة العزل الذاتي الصينية والحملات الجماهيرية المناهضة للولايات المتحدة في جمهورية الصين الشعبية.

أدت هذه السياسة التي يطلق عليها الستار الخيزراني إلى عزل الصين، التي كانت قد دخلت الحرب الكورية، وساعدت الشيوعيين الفيتناميين ضد الولايات المتحدة، ثم جاءت الهدنة الكورية في نوفمبر عام 1953م، لتجنب البلدين الصراع المباشر.

مع تفكك التحالف بين الصين والاتحاد السوفيتي بين عامي 1959 و1963م أصبحت العلاقة مثلثة الأضلاع؛ حيث ظلت الصين في المعسكر المناهض للولايات المتحدة، وبقيت تشجب التعايش السلمي لكنها كانت تعارض أيضًا ما تسميه النهج التحريفي السوفيتي ووقفت ضد نفوذ موسكو في العالم الثالث. وهناك حادثة شهيرة عندما وقف ماو ضد بعض من جنرالاته في عام 1965م رافضًا إرسال جنود إلى فيتنام للحرب ضد الولايات المتحدة ، في حين ان الصين كانت تساعد بواسطة سلاح الهندسة الخاص بها السوفيت في نقل أسلحتهم إلى الهند الصينية.

ولزم الدبلوماسية الأمريكية عشر سنوات تقريبًا حتى تمكنت من الاستفادة من الفرص التي وفرها الانقسام بين الصين والاتحاد السوفيتي، وكانت إدارة نيكسون بحاجة للصين للضغط على فيتنام وإنهاء الحرب في الهند الصينية، وبعد لقاءات سرية، قام ريتشارد نيكسون بزيارة تاريخية إلى الصين عام 1972 رافقه فيها هنري كيسنجر، واجتمع مع الرئيس ماو لإرساء أسس التفاهم بين الصين وأمريكا، التي كانت تتعلق أساسًا بتايوان ، واتفق الطرفان –الصين والولايات المتحدة على ألا يتفقوا حسب البيان الختامي الذي صدر بعد المباحثات، وعلى الرغم من أن الاعتراف الدبلوماسي تحقق فقط في يناير 1979م تحت إدارة الرئيس جيمي كارتر، فإن الموقف الأمريكي من العلاقة مع الصين كان آخذًا في التحول قبل هذا التاريخ.

وكان شهر العسل في العلاقات الصينية-الأمريكية يصل ذروته في أوائل عام 1979م، أي بعد الاعتراف؛ حيث استطاعت الصين على إثر ذلك غزو فيتنام بموافقة ضمنية من واشنطن لمعاقبة الفيتناميين على غزو كمبوديا ، وقام زعيم الصين الجديد ، دنغ شياو بنغ (رئيس الصين بين عامي 1978 و1992) بزيارة شهيرة إلى الولايات المتحدة .
تناقض وتقلُّب العلاقة (بين التعاون والتنافس).

في نهاية فترة رئاسة كارتر هاجم ريجان خصمه لضعف موقفه تجاه الصين، مدعيًا أنه سيوفر دفاعًا أفضل عن تايوان، وبعد انتخابه سعى إلى زيادة مبيعات الأسلحة لها، مما أغضب الصين. واستمر الخلاف حتى تم التوقيع على بيان مشترك في يونيو 1982، ربط بشكل أساسي بين وعد أمريكي بتخفيض شحنات الأسلحة إلى تايوان وتحقق السلام والاستقرار في مضيق تايوان؛ وظل هذا التعهد المشروط مصدرًا للجدل حتى يومنا هذا؛ حيث تطالب الصين الشعبية بوجوب وضع سقف لشحنات الأسلحة في حين تحدد الولايات المتحدة سياستها بناء على منسوب التوتر ومستوى الحشد العسكري الصيني في المنطقة.

وابتداء من حملة ريجان الانتخابية الناجحة عام 1980، وحتى وصول جورج دبليو بوش إلى سدة الرئاسة في عام 2008 ، ظلت دورة سياسية داخلية تتحكم بالعلاقات الصينية-الأمريكية؛ حيث انتقد كل مرشح فائز سياسة سلفه تجاه الصين، ووعد بموقف أكثر صرامة (بشأن قضايا الأمن بالنسبة إلى الجمهوريين، وبشأن التجارة وحقوق الإنسان بالنسبة إلى الديمقراطيين.

وقد اختلفت الصين الشعبية مع كل رئيس جديد، حتى تم التوصل إلى حل وسط جديد، وبعد ذلك عبّرت دائمًا عن أسفها على رحيل كل رئيس؛ وبناء عليه نجد أن ريجان قاد حملة لأجل تايوان، ليأتي الرئيس جورج بوش ويعيد التوازن في بداية حكمه للعلاقات الأمريكية مع اليابان، أما بيل كلينتون فقد اختار التجارة كنهج رئيسي في التعامل مع الصين مانحًا إياها أخيرًا وضع الدولة المفضلة، ودخلت الصين منظمة التجارة العالمية في عام 2001 بعد مفاوضات فاشلة عام 1999.

ووصف بوش الابن أثناء حملته الانتخابية الصين بأنها منافس استراتيجي/ وبدأت وزارة الدفاع الأميركية تركزاهتمامها غربًا قبل أن تعطل هجمات 2001 هذا التوجه وتعيد استئنافه؛ أي التحول نحو الغرب في عام 2012 في ظل إدارة الرئيس باراك أوباما كجزء من سياسة التحول نحو آسيا بعد الانسحاب من العراق، والرحيل المتوقع للقوات الأمريكية من أفغانستان في عام 2014 .

لعبت الصين في هذه الدورة السياسية دورا لا يكاد يذكر، فبعد دنغ شياو بنغ سعى الرئيس جيانغ تسه مين إلى علاقة استراتيجية مع الولايات المتحدة؛ مما حد من الخلافات وعزز من التعاون بين الطرفين بشأن القضايا الرئيسية؛ وبطبيعة الحال يعد قرار الصين بعدم الاعتراض على حرب أمريكا على العراق معلمًا بارزًا في هذا المسار، حاله حال قرار التوقيع على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية.

لم تُوقِف الصين قط تحديث قواتها المسلحة، وزادت منذ عام 1979 إنفاقها العسكري بشكل مستمر بأكثر من 10% سنويًّا، وتولى الرئيس جيانغ بنفسه إدارة أزمة تايوان الجديدة في مارس 1996؛ حيث قامت الصين باختبار صواريخ باليستية على كافة أطراف الجزيرة، وأعلنت عن اعتراض شحنات أسلحة؛ وانتهت الأزمة بعد أن أرسلت الولايات المتحدة حاملتي طائرات إلى مضيق تايوان، إلا أن الصين الشعبية استطاعت بهذا أن توضح وجهة نظرها الرافضة لأي تفكير بقبول إعلان الاستقلال من جانب تايوان.

وتوترت العلاقات أيضًا بسبب النزاعات المحلية داخل الصين، فبعد سحق احتجاجات ميدان تيانانمين في يونيو 1989، أقرت مجموعة الدول الكبرى الصناعية السبعة (G 7) عقوبات بقيت واحدة منها فعالة حتى اليوم، وهي وقف مبيعات الأسلحة إلى جمهورية الصين الشعبية، في حين اتخذت العلاقة الاقتصادية مسارًا خاصًّا بها، مع أفضلية كبيرة للصين؛ حيث بلغ فائض تجارتها مع الولايات المتحدة 315 مليار دولار في عام 2012.

كما يقترب فائض التبادل التجاري بين الصين وأوربا من المستوى نفسه؛ لكن مع فرق كبير، وهو أن الصين تقوم مقابل فائضها التجاري باستثمار ثلثي احتياطياتها النقدية في الدولار، التي نمت حتى وصلت حاليًّا إلى 3.5 تريليون دولار، ويتم توجيه جزء كبير من هذا الاستثمار إلى شراء سندات الخزينة الأمريكية، أو السندات شبه الحكومية، وهكذا تجاوزت الصين الشعبية اليابان كأكبر مالك أجنبي لديون الولايات المتحدة.

غالبًا ما كان هذا الوضع مصدرًا للقلق؛ حيث اتهمت قطاعات من الرأي العام الأمريكي ووزارة الخزانة نفسها الصين بالتلاعب بعملتها؛ حيث تحول الفائض في الحساب الجاري إلى احتياطيات من العملات الأجنبية؛ لكنه أيضًا عامل استقرار كما ذكرت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون في عام 2010، قائلة: إن من الصعب الجدل مع شريك حين يكون هو الدائن الرئيسي.

يعرب صخر

الجنرال يعرب صالح صخر عميد ركن في الجيش اللبناني، وباحث مشارك في منصة وايتهاوس مختصّ بالملفات العسكرية الإقليمية والدولية. تقاعد من الجيش إثر خدمة وطنية لمدة 36 عاماً. الجنرال حامل لدرجات الماجستير العلمية في التخصصات: الدراسات الاستراتيجية، الحرب والدبلوماسية، والأمن القومي.
زر الذهاب إلى الأعلى