كيسنجر: الحلقة الدبلوماسية المفقودة
الاستماع للمقال صوتياً
|
واشنطن – مقال الرأي
بقلم مرح البقاعي
في خبر كان مفاجئاً للوسط السياسي الأميركي على أقل تقدير، أعلنت وزارة الدفاع الصينية في بيان رسمي صادر عن مكتبها الإعلامي، أن هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق، التقى مؤخراً بوزير الدفاع الصيني، لي شانغفو، في بكين. وذكر البيان أن كيسنجر قال خلال الزيارة إنه صديق للصين، كما أورد البيان أن كيسنجر شجّع في تصريحاته البلدين على التعاون بشكل أوثق.
هنري كيسنجر، ووفقاً لترجمة رويترز للبيان الذي جاء باللغة الصينية، قال: “لقد أثبت التاريخ والممارسة باستمرار أنه لا يمكن للولايات المتحدة ولا الصين التعامل مع الآخر كخصم”. وأضاف، ودائماً وفقاً للبيان الرسمي الصيني: “على الولايات المتحدة والصين إنهاء سوء التفاهم بينهما والتعايش السلمي وتجنب المواجهة”.
كيسنجر الذي بلغ منذ أسبوع عامه المائة، ما زال نجم السياسات الأميركية بلا منازع. وهو ما فتئ يتمتع بالحيوية اللازمة لإعلان المواقف السياسية وطرح الأسئلة الصعبة. فهو يتحدث بشكل متصل عن التهديدين الأساسين للاستقرار العالمي في هذا العصر وهما برأيه: المواجهة المفترضة بين الصين والولايات المتحدة من جهة، والقوة والتأثير المتناميان للذكاء الاصطناعي من جهة أخرى.
أما سبل مواجهة هذين التحدّيين المتعاظمين، فيمكن أن تتوقف على سؤال أعمق أشار إليه السيد كيسنجر لأول مرة منذ ثلاثة عقود، وهو: كيف تختار الولايات المتحدة طوعاً الانخراط في نظام عالمي جديد لم يعد بإمكانها تصميمه أو السيطرة عليه كما فعلت خلال السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية؟ وما الذي تريده أميركا من العالم وهي لم تزل القوة الرائدة فيه؟ وهل سيمكنها الخروج من الحلقة التاريخية التي تدور فيها للتوسع المفرط من طرف أو للانعزالية من طرف آخر، كما يرى السيد كيسنجر؟
هذه أسئلة عميقة ووجودية للحالة الأميركية، السياسية منها والثقافية والاقتصادية؛ أميركا التي بالرغم من الانقلابات الموسمية في مناخ التحالفات الدولية التي يشهدها العالم والقوى الصاعدة فيه، ما تزال الجهة المهيمنة الأكثر تأثيراً على مستوى القوة، ناعمةً دبلوماسيةً كانت أم صماءَ عسكرية.
يرى كيسنجر أن الولايات المتحدة غير قادرة فعلاً على الانسحاب من امتدادها في العالم، لكن في الوقت نفسه يقرّ أنها أقل قدرة على التحكم والسيطرة كما حالها منذ عدة عقود إثر انهيار جدار برلين. فهل يطرح كيسنجر من جديد – كما كتب إثر انهيار الاتحاد السوفييتي – ضرورة تقاسم النفوذ مع القوى العالمية الصاعدة؟ وهل يريد من الرئيس بايدن أن ينأى بنفسه عن حروب الجمهوريين كما الحال في حرب جورج دابليو بوش في العراق، أو حتى عن ’الانغزالية الكئيبة’ الذي كان نهجاً استراتيجياً للرئيس ترامب كما يصفها كيسنجر؟ وهل يشجع من خلال زيارته إلى الصين ولقائه وزير دفاعها نوعاً من المشاركة الدولية لأميركا التي يتطلبها عالم متغيّر؟
من نافلة القول أن واشنطن، ورغم موقفها من روسيا في حربها الوحشية على أوكرانيا، إلا أنها مع دعمها اللازم لكييف في الدفاع عن نفسها – دعماً سياسياً وعسكرياً – تتجنب في كل المناسبات المواجهة المباشرة مع موسكو. وقد بدا هذا التوجّه الأميركي واضحاً في غياب دعم واشنطن لقبول طلب أوكرانيا العضوية في حلف الشمال الأطلسي. فإدارة بايدن، وببساطة شديدة، لا تريد أن تضع نفسها في مواجهة حتمية مع بوتين الذي اعتبر دخول أوكرانيا إلى الناتو بمثابة إعلان حرب على روسيا.
أما بالنسبة لموقف واشنطن من الصين فهو مختلف تماماً! فمنذ بدايات القرن الحادي والعشرين أمست العلاقات بين الولايات المتحدة والصين أكثر برودة وأقرب إلى الصدامية، بينما تغيب قنوات التواصل الضرورية بين المسؤولين المتنفذين في العاصمتين بكين وواشنطن، اللهم ما عدا الاختراق الدبلوماسي الذي حققه وزير الخارجية الأميركي، أنطوني بلينكن، من خلال زيارته الرسمية لبكين مؤخراً، وما تلاه من زيارات لوزيرة الحزانة الأميركية، جانيت يلين ،وحالياً مبعوث الرئيس بايدن لقضايا المناخ جون كيري.
فصل المقال يكمن في التحدي الذي يواجه بايدن في ضرورة إيجاد طريقة لتجنب ترك القوتين الرئيسيتين في العالم دون قنوات اتصال مستدامة وموثوق بها، خاصة وسط الحماس النادر من الحزبين الأميركيين الكبريين لاتخاذ سياسة اقتصادية أكثر صرامة وحمائية تجاه بكين – ولاسيما فيما يتعلق بالتطور السريع وغير المنضبط للذكاء الاصطناعي وأخطاره في غياب الحوكمة الأمنية لبيانات الإنترنت وانتشار المعلومات.
قد تكون زيارة كيسنجر إلى بكين تأكيداً لرؤيته التي طالما طرحها بأن من مصلحة الجميع – أمريكا والصين والعالم – أن تعمل واشنطن وبكين معاً لتيسير القضايا الملحّة العالقة بينهما ومنها وضع قواعد صارمة على برامج الذكاء الاصطناعي، وذلك بما يوازي نهج الولايات المتحدة وروسيا في عقدهما اتفاقيات نووية خلال سنيّ الحرب الباردة.
إلا أنه نظراً إلى توتر وانعدام الثقة بين الولايات المتحدة والصين، قد لا يكون الأمر سهلاً. ومع ذلك يبدو أن الرئيس بايدن يشارك كيسنجر وجهة نظره بأن واشنطن بحاجة إلى التعامل مع منافستها الصينية بخاصة في القضايا التي لا يمكن لأي منهما إيجاد مخارج لها بمفرده.
فهل سيكون ابن المائة عام قادراَ على لعب دور الحلقة الدبلوماسية الأهم في علاقات مستقبلية ممكنة بين بكين وواشنطن؟
أتساءل!
.