سيجار.. وسي آي إيه
الاستماع للمقال صوتياً
|
واشنطن – خاص وايتهاوس
بقلم نشمي عربي
دردشة من زمن الحرب الباردة
لست مغرماً بنشاط اجتماعي محدد، وحياة السهر وأجواءها لاتغريني عادةً، ومتعتي الحقيقية تكون في نقاش ذكي وهاديء، مع سيجار جيد، وقهوة محضرة بعناية، لذلك فقد كان طبيعياً أن أستجيب لدعوة الراحل “سابا شامي” الناشط في الحزب الديمقراطي الأمريكي للقائه بنادي سيجار كنا نرتاده عادةً في منطقة شمال فيرجينيا، قرب العاصمة واشنطن.
لم تكن رحلة “سابا” مع المرض اللئيم الذي أودى بحياته مبكراً قد بدأت بعد، وقد كان دوماً ورغم بعض تقلبات مزاجه جليساً ممتعاً، ومتحدثاً جيداً، سيان إن هو تحدث عن رحلة عبد الوهاب وأم كلثوم إلى حيفا التي نشأ فيها، أو عن رحلته هو مع العديد من أعضاء مجلسي النواب والشيوخ الأمريكيين، بعد هجرته للعالم الجديد، حاملاً معه هماً فلسطينياً لايفارقه، وهوىً عروبياً لايمكن إنكاره عليه.
في الطريق إلى اللقاء اتصل بي “سابا” ليعلمني أن صديقاً له يعرفه من نادي السيجار الذي سنلتقي فيه سيكون موجوداً، وإن كنت أمانع في أن ينضم لجلستنا، فأجبت بأنني قطعاً لا أمانع، ليقول لي “ممتاز، ستكون فرصة جيدة لنقاش ممتع معه، فالرجل كان قبل تقاعده مسؤولاً مهماً في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA”.
عكس كل التهويمات التي تسيطر على المخيال العربي (الثر والغني) والمتأثر بشدة بمسلمات مسبقة، فإن أغلب مسؤولي الاستخبارات والخارجية الأمريكية، خصوصاً من الصف الأول والثاني، يمثلون شريحة ربما تكون هي الأكثر فهماً لقضايا منطقتنا والعالم، ربما بحكم انحيازهم المطلق للمصالح الأميركية الحقيقية، بعيداً عن الأهواء السياسية التي غالباً ما تتحكم بها مصالح انتخابية، نرى تأثيرها الضاغط بوضوح في الكونغرس بمجلسيه (شيوخ ونواب)، يضاف إلى ذلك حقيقة أن أغلبهم خريجي جامعات مرموقة، وباختصاصات مختلفه، تبدأ من التاريخ، ولاتنتهي مع الاقتصاد والعلوم السياسية، لتشمل الآداب الإنسانية والأديان وعلوم الاجتماع، وأحياناً الفنون واختصاصات أخرى قد لاتخطر لنا على بال.
أتبع “سابا” مكالمته برساله نصيه قصيرة جداً، أدركت فوراً أنها إسم صديقه الذي سنلتقيه، مع عبارة من كلمتين: (Google him) .. وعندما فعلت أدركت فوراً لماذا، فالرجل رغم أنه كان مسؤولاً عن قضايا لاتخص المنطقة العربية مباشرةً، إلا أن موقعه المهم جداً أثناء سنين عمله الطويلة قد وضعه في عين الحدث بالنسبة للكثير من القضايا الأكثر أهميةً، لدرجة أنه أصبح جزءاً منه.
لا أدري لماذا كان انطباعي الأول عن الرجل قد ذكرني بالممثل الأميركي “روبرت ردفورد” وفيلمه المميز “هافانا” الذي أعتبره أهم أفلامه، رغم أنه نال شهرة أوسع في فيلم “indecent proposal” الذي قدمه بعده بثلاث سنوات … لعل أناقة الضيف ودماثته الشديدتين كانتا وراء هذا الاستحضار في مخيلتي يومها.
كعادة مدخني السيجار فقد كان الحديث عنه مدخلاً سلساً للحوار، خاصةً وأن الرجل بعد تقاعده من (لانغلي) يعمل في توريدات السيجار، وقد كان كريماً بأن أجاب على أسئلة واستفسارات عديدة كانت لدي حول عالمه، وفي اللحظة المناسبة، وفي انعطافة مفاجئة (على مايبدو كان يتوقعها) بادرته بالقول: “لدي سؤال مزمن أتمنى أن أجد له إجابة عندك، بحكم عملك السابق”، فأجابني بكل هدوء: “أعدك بأنني سأستمع بإنصات لسؤالك، وأن أحاول الإجابة عليه في الحدود التي تسمح لي بذلك”، فعلقت على ذلك بقولي: fair enough، وقد كان سؤالي حول الجدوى الحقيقية للقدرات النووية الإسرائيلية، والغاية الفعلية منها.
نظر لي محدثي بهدوء شديد وأردف:
“من يسأل سؤال كهذا يملك عادةً جواباً عليه، هو فقط يريد التأكد من مدى صحة تخمينه”، ابتسمت لتعليقه، ثم تابع: “تفضل، كلي آذان صاغية”، بهدوء شديد ودون مقدمات قلت:
“الحقيقه أنني أعتقد أن المقدرات النووية الإسرائيلية ليست أكثر من عامل ضغط، على الغرب عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً” … يبدو أن جوابي لم يفاجئه على الإطلاق، ولكنه سأل معقباً: “لماذا تعتقد ذلك؟”، فكان جوابي: “لسبب بسيط جداً، وهو أن السلاح النووي هو السلاح الغير تقليدي unconventional الذي تستخدمه إسرائيل لضمان استمرار حلفائها وفي مقدمتهم الولايات المتحدة بدعمها بكافة الأسلحة التقليدية conventional التي تضمن لها دوماً التفوق العسكري على محيطها مجتَمِعاً” … وزع الرجل ابتسامة لن أنساها، بين “سابا شامي” وبيني، وأخذ من سيجاره نفثاً عميقاً، وقال:
“كل ماأستطيع قوله لك أن تفسيراً كالذي سمعته منك يعبر عن طريقة تفكير مختلفة، وتستحق الكثير من الاهتمام”.
طبعاً أنا لا أشير على الإطلاق لإمكانية استخدام اسرائيل لقدراتها النووية ضد حلفائها، هذا أمر خارج النقاش حتماً، ولعل ظروف وإمكانيات استخدام أي سلاح نووي حتى ضد الأعداء تخضع لشروط وحسابات معقدة جداً، خاصة عندما نتحدث عن مجال جغرافي ضيق ومكتظ كمنطقة الشرق الأوسط، بمايؤكد دقة مقولة أن امتلاك المقدرات النووية هو عامل ضغط وردع سياسي أكثر منه عسكري.
أستند في قناعتي هذه لحقيقة هامه وهي أن الولايات المتحدة ورغم كل دعمها المطلق لإسرائيل لم تكن متحمسة يوماً لامتلاكها للمقدرات النووية، ناهيك عن السلاح النووي، بدليل أن مفاعل ديمونا الإسرائيلي تم إنشاءه بخبرات فرنسية، وأن إسرائيل فعلت المستحيل لإبقاء مشروعها النووي بعيداً عن الأعين الأميركية، حتى أن هنالك العديد من الروايات (الغير مثبته) تتحدث عن أن تدمير سلاح الجو الإسرائيلي لباخرة التجسس الأميركية “ليبرتي” عام 1967 كان بسبب شكوك إسرائيلية بقيامها بالتجسس على نشاطات مفاعل ديمونا النووي، الأمر الذي اعتذرت عنه إسرائيل لاحقاً وادعت أنه حدث بطريق الخطأ.
بعيداً عن الحرب الباردة وحساباتها الدقيقة ووصولاً إلى الأمس القريب، فإن إيران مثلاً، في سعيها لحيازة المقدرات النووية، وفي تفاوضها الطويل مع الغرب حوله، قد حققت من المكاسب وأوراق الضغط أكثر بكثير مما قد تحققه في امتلاكها للسلاح النووي نفسه، فهاهي إدارة أوباما الديمقراطية تغض النظر عن تمدد إيران الإقليمي في أربع عواصم عربية مهمة، في سبيل الوصول معها لاتفاق يحد جزئياً من سعيها للوصول للمقدرات النووية، ولعل حالة التفاوض السرمدية هذه تحقق لإيران مكاسب تتجاوز أية مكاسب أخرى في حال نجاح الإتفاق أو فشله …
في نهاية الحوار ابتسم الضيف وزودني بأرقام هواتفه قائلاً “لا تتردد بالإتصال بي إذا قررت يوماً أن تؤسس لمشروع تجاري في مجال السيجار ولوازمه” …