“زمن مستعمل”.. استعصاء الذكرى في نوبل الآداب
الاستماع للمقال صوتياً
|
صوفيا – خاص وايتهاوس
بقلم تهامة الجندي
“لم يعلمنا أحد ما هي الحرية، كانوا يعلموننا فقط كيف يمكن الموت في سبيل الحرية”. تقول سفيتلانا ألكسييفيتش في مقدمة كتابها “زمن مستعمل: موت الرجل الأحمر”، وتحاول من خلاله استشراف خبايا الحقبة الشيوعية السوفيتية، ورصد تبعاتها عبر مجموعة كبيرة من الشهادات الحية لأناس من مختلف الانتماءات والمشارب والأجيال، جمعتها الكاتبة على مدار عشرين عاماً من تاريخ انهيار الاتحاد السوفيتي، ووضعتها في إطار قسمين منفصلين، الأول بعنوان “عزاء نهاية العالم” (1991-2001)، والآخر “سحر الفراغ” (2002-2012).
شهادات القسم الأول “عزاء نهاية العالم” تتمحور حول المرحلة الشيوعية وفترة البريسترويكا من وجهات نظر مؤيدة ومعارضة، بعضها يعتبر غورباتشوف عميل أمريكي، وبعضها الآخر يعتقد أنه الزعيم الأول العادي والطبيعي في تاريخ الاتحاد السوفيتي، وبغض النظر عن أوجه الاختلاف في الموقف من تلك المرحلة تشير الكاتبة إلى أنه “خلال ما يزيد عن سبعين سنة في مخابر الماركسية-اللينينية تم تصنيع نموذج إنساني فريد، إنه الإنسان السوفيتي”، وهذا الإنسان لا يقتصر على الروس فقط، بل ويشمل سكان الجمهوريات السوفيتية السابقة من البيلاروسيين والتركمان والأوكرانيين والكازاخ…
“كنا أناساً بذاكرة شيوعية واحدة” في أربعة أجيال: جيل ستاليني، والآخر خرتشوفي، والثالث بريجنيفي، والأخير غورباتشوفي، و”أصبحنا نعيش في دول مختلفة، ونتحدث بلغات مختلفة، ولكن من السهولة اكتشافنا وتمييزنا عن الآخرين، فجميعنا أناس من الاشتراكية… لدينا قاموسنا الخاص، وتصوراتنا الخاصة عن الخير والشر، عن الآلام والأبطال، ولدينا مواقفنا المتميزة تجاه الموت”.
واحدة من أكثر المفردات تداولاً في شهادات القسم الأول، هي الأشكال السوفيتية المرعبة للاعتقال التعسفي والتعذيب واختفاء البشر من الوجود. فالسلطة الحاكمة تعتبر الخصوم والمعارضين “أعداء للشعب” حتى وإن كانوا من الشيوعيين والكادحين، وتبيح لأجهزتها الأمنية استخدام أكثر الأساليب وحشية للقضاء عليهم، كما تعتبر التجسس على الآخرين والوشاية بأقرب الناس من الأعمال البطولية. وعلى لسان أحد شهود الحرب الروسية على فنلندا، حتى الأسرى فور عودتهم إلى الوطن كانوا يساقون إلى التحقيق ويُعتقلون، ولدى الإفراج عنهم كانوا يعيشون منبوذين ومبعدين عن أية مناصب حكومية خشية أن يكونوا عملاء للعدو.
الحرب مفردة أخرى تسيطر على ذاكرة الشهود، الحرب العالمية الأولى والثانية، الحرب في أفغانستان.. ففي وسائل الإعلام والدعاية الموجهة ثمة على الدوام عدو خارجي يتربص بالنظام الشيوعي ويحيك المؤامرات ضده، إنه الإمبريالية الغربية أصل الشرور في العالم، والمعركة ضدها واجب وطني مقدس. “كنا جاهزين للموت من أجل مثلنا العليا”، “نحن كلنا عسكريون، فإما أننا حاربنا، وإما أننا نستعد للحرب، لم نعش أبداً بطريقة أخرى، ومن هنا جاءت سيكولوجيتنا العسكرية” تكتب سفيتلانا تحت عنوان “ملاحظات شريك”.
الدعاية الموجهة أسست للاقتناع بأن الفقر فضيلة والغنى رذيلة، ويقول أحد الشهود: “الإنسان السوفيتي إنسان جيد، كان بإمكانه أن يسافر إلى الأورال والصحراء من أجل الأفكار، وليس من أجل الدولار”. لكن المفارقة التي تكشفها شهادة الرواة أن هذه القناعة لم تمنع الكثيرين من ممارسة الفساد لتحسين أوضاعهم المعيشية، كما أن مجمل المثل الشيوعية العليا أفرزت أنماط من التسلط والسلوك العدواني إزاء الآخر المختلف، وكرست في النفوس إحساس مزمن بالريبة والعجز والمعاناة.
القسم الثاني من الكتاب “سحر الفراغ” يتناول المتغيرات فيما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ويذخر بالشهادات التي تصور مظاهر الاخفاق في بناء الدولة الديمقراطية، يحكي عن الفساد وتدهور المستوى المعيشي لعامة البشر، عن القمع وصعود النزعات القومية والحروب، من قبيل القتل والسرقات والاعتداء على المهاجرين، وحرب روسيا على الشيشان، وقمع المظاهرات ضد لوكاشينكو في بلاروس… ويذكر أحد الأساتذة الجامعيين في حديثه أنه “بعد عشرين عاماً من الإخفاق، يبدو أن نصف الجيل الجديد عاد إلى الرموز الاشتراكية، وبات يرتدي قمصاناً عليها صور لينين وستالين وتشي غيفارا.
تنتقد سفيتلانا ظاهرة العودة نحو الرموز الاشتراكية، وتعتبرها محاولة لاستعادة النظام الشمولي القديم، واستساغة العبودية، “فهناك حنين إلى كل ما هو سوفيتي، وتُبعث من جديد الأفكار القديمة المنقرضة عن الامبراطورية العظمى، وعن اليد الحديدية والطريق الروسي المتميز. حزب السلطة هو طبعة جديدة عن الحزب الشيوعي، وسلطة الرئيس الروسي اليوم مطلقة، وبدلًا من الماركسية- اللينينية الآن لدى روسيا الكنيسة الأرثوذكسية”. وترى الكاتبة في هذه الانقلابات كارثة مقبلة على البشرية جمعاء.
صدر كتاب “زمن مستعمل” بلغته الأم عام 2013، وصدرت الطبعة العربية عام 2018 عن دار ممدوح عدوان، من ترجمة د. نزار عيون السود (1945-2023)، والكتاب جزء من سلسلة توثق الحياة في المجتمعات السوفيتية عبر شهود العيان، بدأتها سفيتلانا ألكسييفيتش عام 1985 بصدور روايتها “ليس للحرب وجه أنثوي”، ثم “آخر الشهود”. ومن بعدها “فتيان الزنك”، “مسحور بالموت” و”صلاة تشرنوبل”.
تكتب سفيتلانا ألكسييفيتش من موقع الخبير والشريك، فهي أديبة بيلاروسية من مواليد جمهورية أوكرانيا السوفيتية عام 1948، خريجة كلية الصحافة في “جامعة مينسك”، عُرفت بنقدها اللاذع ودفاعها عن حقوق الإنسان، ما اضطرها إلى طلب اللجوء عام 2000 حيث عاشت متنقلة بين إيطاليا وفرنسا وألمانيا والسويد، وحازت على جائزة نوبل للآداب عام 2015، وجائزة معرض فرانكفورت للكتاب عام 2013، وكانت من أوائل الكتاب الذين انتقدوا قمع الصحفيين في روسيا، وأدانوا حرب بوتين على أوكرانيا.
تهامة الجندي