لماذا المجلس العسكري السوري اليوم؟
الاستماع للمقال صوتياً
|
واشنطن – وايتهاوس
مقال الرأي بقلم مرح البقاعي
لم تتشكّل المقاومة المسلحة في سياق الحراك السوري الذي بدأ سلمياً خالصاً، إلا لحاجة ماسّة في الدفاع عن الحالة السلمية عينها التي امتاز بها الخروج السوري الكبير في العام 2011، وذوداً عن مدنية الحراك الشعبي.
وجاء انشقاق الضباط على اختلاف رتبهم عن جيش النظام السوري في المراحل الأولى من الثورة السورية ليدعم حركة المقاومة المسلحة بالرجال الذين رفضوا توجيه البندقية إلى صدور أهلهم، وقد خرجوا مطالبين بحقوق مشروعة تضمنها الأعراف الدولة كافة، الدينية والدنيوية في آن، وفي مقدمتها الحريات العامة والعيش الكريم والعدالة الإنسانية.
وما قول الفاروق، عمر بن الخطاب، رضي الله عنه “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهم أحرارا” إلا بسابق زمناً، وموازٍ مضموناً، لما أطلق أحد الآباء المؤسسين للدولة الأميركية، توماس جيفرسن، حين كتب الفقرة الثانية من إعلان استقلال الولايات المتحدة “الناس جميعاً خلقوا متساوين، وخالقهم منحهم حقوقاً بعينها غير قابلة للتصرف من بينها حق الحياة والحرية والسعي نحو السعادة”.
التأم عقد المجلس العسكري السوري في العام 2012 ، ولو لم يكن في حينها معلناً بسخاء إعلامي، إلا أنه كان التشكيل العسكري الأوسع تمثيلاً وعضوية، والمنضبط تراتبياً وتنظيمياً ضمن أصول وقواعد العمل العسكري. واستمر ظهور هذه المؤسسة على سطح المشهد السوري متواضعاً رغم أنها كانت تعدّ نفسها إعداداً هادئاً ومدروساً وواضح الهدف لاعتلاء المنصة من جديد في العام 2021 عندما أُعلن عن إطلاق منصتها الالكترونية الرسمية، وبدأ الضباط المنظمون لمبادرات وفعاليات المجلس بحركة حوار واسعة مع كافة الأطراف السياسية والفكرية السورية لتوسيع قاعدة الأرض المشتركة التي يلتقون فيها مع القاعدة المدنية للثورة.
لم تقتصر فعاليات المجلس العسكري على الحوار الموضوعي والرصين مع الأطراف المنظمات المدنية والتشكيلات السياسية والحزبية المعارضة – وقد كان لحزبنا الجمهوري السوري نصيباً طيباً منها – بل قام بحركة إعداد علمي متقدم لأعضائه من الضباط ضمن ورشات توعية وعمل تدريبية ستضعهم في النهاية في موقع متقدّم من منظور المجتمع الدولي الذي يريد أن يرى مجلساً عسكرياً جاهزاً، وعلى المستويات المهنية والمعيارية كافة، للانخراط مع شركائه السياسيين بهدف تحقيق الانتقال السياسي ضمن مظلة القرار الأممي رقم 2254.
أطلق المجلس العسكري السوري مواكبة لشعاره “مسؤولية وطن” مجموعة من البرامج التي ستعمل على إعادة الاستقرار للمناطق المضطربة أمنياً في سوريا. ومن خلال هذا التوجّه، شارك في تدريب عناصره وضباطه، الذين يتجاوزن الألف وخمسمائة ضابط وضابط صف، على واحد من أهم البرامج التي أطلقتها عمليات السلام التابعة للأم المتحدة وعنوانه “نزع السلاح وتسريح المقاتلين وإعادة الدمج” أو ما يطلق عليه اختصاراً بأحرفه الأولى من اللغة الإنكليزية ( (DDRوهو برنامج يسير مواكباً لرؤية الأمم المتحدة في تهيئة ظروف حياتية ومعيشية مقبولة للمناطق التي خضعت لنزاعات محلية شديدة.
يسعى المجلس العسكري السوري من خلال هذا البرنامج إلى دعم المقاتلين السابقين والأشخاص الذين ارتبطوا بجماعات مسلحة بهدف إعادة إدماجهم بالمجتمع حتى يتحوّلوا إلى مشاركين نشطين في عملية السلام القادمة؛ هذا إلى جانب العمل على برامج الحد من العنف المجتمعي التي ستؤدي إلى خلق الظروف المناسبة لإحراز تقدم في حل الجماعات المسلحة وتمكين العملية السياسية، ما سيمهّد الطريق لاستدامة الأمن والاستقرار في المجتمع السوري، وكذا دعم القدرات والكفاءات القادرة على تحقيق السلام والتنمية على المدى الطويل.
الضباط في المجلس العسكري السوري الذين تدربوا على المهام المنوطة ببرنامج نزع السلاح وتسريح المقاتلين وإعادة الإدماج يتمتعون اليوم بالخبرة والتفويض اللازمين للتعامل مباشرة مع حملة البندقية. كما أنهم قادرون على تقديم المشورة في كيفية التعامل مع الجماعات المسلحة والمساهمة في نهاية المطاف في توقيع اتفاق سلام مستدام.
ومع تغاير المشهد في غير دولة مرّت في ظروف سياسية وحربية وأمنية مشابهة لما مرت به سوريا، وتصدُّر مجالس عسكرية للقيادة في تلك الدول، فإن إطلاق المجلس العسكري السوري إلى الواجهة في هذه المرحلة تكاد تكون خطوة محفوفة بالمخاطر بسبب الانعكاسات السلبية التي تركتها بعض تلك المجالس في مجتمعاتها، وكان آخرها تجرية المجلس العسكري في السودان، المجلس الذي اضطر في النهاية تحت ضغط أميركي – أوروبي شديد إلى العودة للتشارك مع الطرف المدني في الحراك والعدول عن الاستفراد بالسلطة.
فصل المقال يكمن في ما يميّز المجلس العسكري السوري عن نظرائه في غير دولة عربية من القبول الشعبي والارتياح لبنيته الصلبة، وهو موقف أبداه باستمرار معظم أطراف الشق السياسي المدني من الحراك السوري العام, فالمجلس العسكري السوري الذي اقترب فعلاً لا قولاً من الناس ولم يغامر بسمعته وطاقته في عمليات قتالية غامضة ولا في استعراضات إعلامية سريعة أو تحالفات دولية عابرة منذ تأسيسه، يبدو أهلاً للدخول بقوة مع شريكه السياسي في رسم خارطة المرحلة الانتقالية وتنفيذها.
قد يكون بياض يديّ المجلس من التلطخ بالدماء السورية، وترفّعه عن شغل مناصب قيادية في مرحلة مضطربة بكافة المقاييس، وحواره المتواصل مع أطراف المجتمع السوري بمؤسساته وشخصياته الوطنية، من أبرز العوامل التي ساهمت في عدم اختزاله إلى مجرد ظاهرة عسكرية عابرة على الحياة السورية، بل وضعته بقوة في موقع القلعة من رقعة الشطرنج السورية التي استعرت على مساحتها حروب الغرباء، وانتشر على أرضها عتاة جيوش العالم وميليشياته المسلحة وتنظيماته التكفيرية الإرهابية، بلا رادع ولا حسيب، وفي غياب مشكوك بأمره لإرادة دولية ناضجة وحاسمة تدفع بتحقيق عودة يسيرة وقريبة إلى الموقع التاريخي لسوريا الطبيعية – سوريا السيّدة الحرّة المستقلة.
(المقال سبق نشره في موقع المجلس العسكري السوري بعنوان ’القلعة’ وإثر لقائي الحواري مع العميد مناف طلاس)