من وصايا كيسنجر للرئيس المُنتخَب
الاستماع للمقال صوتياً
|
بمناسبة بلوغ كيسنجر عيد ميلاده المائة تعيد منصة وايتهاوس نشر بعض ما كتبته رئيسة تحريرها، مرح البقاعي، عن هذه الشخصية البارزة في السياسات الأميركية، وقد كتبت الكثير!
حين يقول كيسنجر إنه “ليس بالضرورة حل المشكلة بالكامل ولكن من الضرورة التخفيف من حدّتها إلى مستوى يسمح بالتقدّم نحو الحل” فهذا يعني أن بايدن على موعد مع منزلقات جديدة.
بقلم مرح البقاعي
رحّبت العاصمة الصينية، بكين، في وسائل إعلامها الرسمية وعلى لسان العديد من خبرائها السياسيين، باختيار الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن، للدبلوماسي المخضرم والمستشار المقرّب للسياسات الخارجية أنطوني بلينكن، ليكون رأس الدبلوماسية الأميركية في الإدارة الجديدة ما بعد عهد ترامب.
وأشارت مجمل القراءات والتحليلات السياسية إلى أن بكين تنظر إلى بلينكن من زاوية تاريخه الدبلوماسي المعتدل الذي يجعل من السهل التعاون معه، في حين يعتقد العديد من المشتغلين في الشأن السياسي أن مسار سياسة واشنطن تجاه الصين سيتغير مع وزير الخارجية الجديد.
شهد ذاك المسار توتّرا متواصلا في عهد الرئيس ترامب، وكان أقرب في تشنّجاته إلى واقع الحرب الباردة بين أكبر اقتصاديْن في العالم منه إلى العلاقات الدبلوماسية المتكافئة بين دولتين، هما الأكثر تأثيرا على المشهد العالمي وإرهاصاته في أسواق المال وحركة التجارة الدولية؛ ومن المتوقّع أن يساهم وصول الإدارة الأميركية الجديدة في إعادة نوع من الاستقرار إلى العلاقة بين واشنطن وبكين، في ظل تفاهمات سياسية تبنى على أسس التوازن وليس التنافس وحسب.
كان الإعلام الرسمي الصيني، في السنوات الأربع الأخيرة، دائم الهجوم على صقور إدارة الرئيس ترامب، وفي مقدمتهم وزير خارجيته، مايك بومبيو، الذي كانت سياساته المتشدّدة موضع قلق كبير للحزب الشيوعي الحاكم في بكين، ما جعل منها هدفا دائما لتوجيه أقسى عبارات التنديد بنهجها العقابي ورفض الصين الرضوخ له.
ونشرت الصحيفة الصينية “ساوث شاينا مورنينغ بوست”، بنسختها الإنجليزية، رأيا للخبير في الشؤون الأميركية في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، لو شيانغ، قوله “بلينكن ليس من النوع الكاريزمي ولا الاستفزازي، لكنه من النوع البراغماتي.. وأنا أرى اختياره وزيرا لخارجية إدارة بايدن سيكون أمرا جيدا”.
أما أنطوني بلينكن فهو مستشار خاص لبايدن منذ زمن ليس بالقصير، وكان قد شغل منصب كبير مساعديه في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، ثم عيّنه الرئيس الأسبق، باراك أوباما، مستشارا للأمن القومي من العام 2009 إلى 2013، وكان بايدن نائبا للرئيس في حينها، وأخيرا شغل موقع نائب وزير الخارجية الأسبق، جون كيري، بين العامين 2015 و2017.
وبغض النظر عن كون التعيينات في المناصب السيادية التي أطلقها بايدن تضمّ وجوها عديدة عملت ضمن إدارة أوباما، وكان لها دور كبير في صناعة القرار الأميركي في ذاك العهد، سواء كان “مطبخها” السياسي معلنا أو من الحديقة الخلفية للإدارة، إلا أننا نريد أن نتفاءل بأن هذه الشخصيات قد خبرت دروسا كثيرة من دوائر سياسات أوباما، وأصبح بإمكانها أن تطوّر أداءها وتجتهد لتجاوز عثراتها السابقة وصولا إلى معادلات أكثر توازنا في القضايا الدولية المعلّقة مع دول مثل إيران والصين وروسيا.
نصائح كيسنجر التي وجهها لترامب، وبخاصة في كيفية التعامل مع ملفات الصين، قد تبدو اليوم أكثر تناغما مع فكر وبرامج إدارة بايدن عن سابقتها من أفكار وبرامج “ترامبوية”
وكما التقى ثعلب السياسة الأميركية، هنري كيسنجر، مع الرئيس ترامب غداة فوزه في انتخابات العام 2016، عارضا عليه رؤيته للعلاقات الأميركية الخارجية الممكنة في عهده، معربا عن إعجابه بنهجه المختلف عن أسلافه، وقد تنبّأ له بأن يكون “ظاهرة” فريدة في الحياة السياسية، كونه وصل إلى البيت الأبيض حاملا معه الكثير من الأسئلة من خارج أطر المؤسسة التقليدية؛ ها هو كيسنجر من جديد يصدّر توصياته للرئيس بايدن وفريقه من خلال مؤتمر “بلومبرغ للأمن القومي” الذي انعقد افتراضيا بعد أسبوعين من انتخاب بايدن رئيسا جديدا للولايات المتحدة.
نصائح كيسنجر التي وجهها لترامب، وبخاصة في كيفية التعامل مع ملفات الصين، قد تبدو اليوم أكثر تناغما مع فكر وبرامج إدارة بايدن عن سابقتها من أفكار وبرامج “ترامبوية”. كيسنجر أوعز إلى ترامب بأن تخفيف الضغط التجاري على الصين يمكن أن يكون مقبولا في حالة لا يتم التغاضي فيها عن ملفات ساخنة يديرها الحزب الشيوعي الحاكم بتعسّف وصلف شديدين.
يرى كيسنجر أن على الرئيس الأميركي التمييز بين سياسة التراخي الاقتصادي والتخفيف من وقع العقوبات على الصين، وبين ما يقابلها من التشدّد الضروري في أحداث تتعلق بعدوان الصين على تايوان، ومحاولات تقويض العقوبات الأميركية والدولية على كوريا الشمالية، وسرقتها للملكية الفكرية من الجامعات ومراكز البحوث الأميركية، وهجماتها الإلكترونية وتجسّسها عبر قنصلياتها، وحملتها على هونغ كونغ، والإبادة الجماعية “الثقافية” التي تمارس ضد أهل التيبت مرافقة مع الإبادة الجماعية “البشرية” ضد المسلمين الإيغور، وأخيرا وليس آخرا اضطهادها للمسيحيين وكل من يحاول أن ينأى بنفسه عن دوغما الحزب الشيوعي الصيني الحاكم.
تحدّث كيسنجر خلال مؤتمر بلومبرغ عن رؤيته لكيفية تعامل إدارة بايدن مع الصين، مشيرا إلى أن على الطرفين اللجوء إلى كل سبل الحوار الممكنة لتجنّب اصطدام عسكري بينهما. وتكون الوسيلة الأمثل لتحقيق الفاعلية والاستدامة في هذا المسعى – برأي كيسنجر- من خلال تعيين قادة للحوار هم موقع ثقة الطرفين، الصيني والأميركي، لمتابعة كل الملفات المعلّقة بين البلدين.
وأفاد كيسنجر في هذا السياق قائلا “تحتاج بكين إلى الاعتراف بالحساسيات الغربية تجاه ممارساتها اللاإنسانية التي تصل أحيانا إلى ارتكابها للإبادة الجماعية، وتحتاج إدارة بايدن إلى تفهّم حساسيات الصين من الأسلوب الأميركي المتّبع في التعبير عن هذه المخاوف”.
وهنا يطرح كيسنجر من جديد على جو بايدن المعادلة الصعبة التي بإمكانها تحقيق التوازن الاستراتيجي المطلوب في ملفات الصين الشديدة التعقيد، اقتصاديا وسياسيا وإنسانيا وأمنيا؛ بل هو يعيد رسم خارطة التوازنات للإدارة الجديدة كما فعل مع ترامب، لكنه سيترك تحديد الآليات المناسبة لتنفيذها في عهدة سيد البيت الأبيض القادم في مطلع العام 2021، وفريق سياسته الخارجية.
وحين يقول كيسنجر إنه “ليس بالضرورة حل المشكلة بالكامل، ولكن من الضرورة التخفيف من حدّتها إلى مستوى يسمح بالتقدّم نحو الحل”، فهذا يعني أن بايدن على موعد مع منزلقات ومفارق طرق جديدة مع العملاق الناهض بقوة هائلة: الصين!