كريم سيرجيّة.. عن السمكة التي خرجت قسراً من ماء حَلَب
الاستماع للمقال صوتياً
|
حوار خاص – وايتهاوس
أجرت الحوار تهامة الجندي
قصة نجاح أخرى يضيفها كريم سيرجيّة إلى قصص اللاجئين السوريين الفائزين بجوائز عالمية، بعد حصول فيلمه الوثائقي “وعد حلب” على جائزة مهرجان جان روش الدولي 2023، وكريم مخرج في سن الخامسة والثلاثين، يقيم في باريس، والحوار معه يفتح الذاكرة على “حلب الحرة” منذ أول الاحتجاجات وحتى استعادتها أواخر عام 2016. فقد وثق ضيفي أحداث الثورة بعدسته وقلمه، وأسهم في تأسيس عدة فعاليات ثقافية، وقدم ثلاثة أفلام قصيرة، قبل أن يُجبر على المضي في حافلات التهجير القسري.
هل كان لمنبته العائلي أثر على بلورة ميوله الفنية وموقفه السياسي؟ سألته،
قال: “كنتُ وحيداً لأهلي ومدللاً، أمي معلّمة ابتدائي ومن عائلة منفتحة نسبياً، خالي درس في الخارج، وتزوج أجنبية، ويتحدث عدة لغات، وخالي الآخر مصور فوتوغرافي ولديه استوديو للتصوير. أما والدي فمن عائلة محافظة، تتمسك بالعادات والتقاليد، درس الاقتصاد ويعمل في التجارة. كان التحصيل العلمي مسألة أساسية بالنسبة للطرفين، وكان الجانب الفني يقتصر على سهراتنا العائلية فقط، فكل عائلة حلبية لديها من يجيد العزف والغناء، وصوت أمي جميل وخالي يعزف على العود، وكانت سهراتنا لا تخلو من العزف والغناء والرقص. لم يكن لذلك أثر يُذكر على ميولي ومواقفي، لكني تأثرت عميقاً برواية “القوقعة”، قرأتها على الموبايل عام 2010، وفتحت عينيّ على السجون السورية في الثمانينيات.
تزامن تخرجي من كلية الاقتصاد في حلب مع بداية الثورة، أسسنا وزملائي في الجامعة تنسيقيات، وحاولنا أن يعمل كل ما بوسعه، وكنتُ مسؤولاً عن النشر لتوفر الانترنيت في منزلي، فتحنا عدة صفحات على الفيسبوك، وصرنا ننشر الأخبار، وبعدها المقالات، وكنت أنشط تحت اسم مستعار هو صلاح الأشقر بسبب معارضة أهلي لمشاركتي في الثورة. كان رأيهم أن يقفوا على الحياد ولا يخاطروا بتأييد أي طرف حفاظاً على المكتسبات والممتلكات، وكنت ضد هذا الموقف، وكانت ثورتي على النظام وعلى عائلتي”.
اعتُقل كريم إثر مشاركته في مظاهرة 17 آب 2011، ويقول عن تلك التجربة: “بقيتُ في فرع الأمن السياسي حوالي تسعة أيام، بعدها دفع والدي مبلغاً كبيراً وخرجت، لكني شعرتُ بقطيعة أقاربي لأني أصبحتُ ضمن قوائم النظام السوداء، ولم يعد أحداً يرغب بالاتصال بي كي لا يُشتبه بأمره. ذلك الموقف جعلني أثور أكثر على الواقع. لم أكن مخطئاً البلد يعاني من القمع والفساد وحكم عائلة واحدة، ولا مجال للاعتراض والتفكير بالتغيير أو أي تحرك سياسي، والناس يقتلون برصاص النظام في المظاهرات السلمية. كانت الثورة ضرورة، وكنتُ مقتنعاً أن على الجميع المشاركة فيها لتغيير الأوضاع السائدة”.
كان ضيفي يسكن في المنطقة الغربية، وكانت معظم المظاهرات تحدث في الأحياء الشرقية، ولدى خروجها عن سيطرة النظام انتقل للعيش فيها، وحول تجربة بناء الحياة في “حلب الحرة” يقول: “الحياة بالنسبة لي هي حرية التعبير، وأعتقد أننا بنينا حياة، وكمثال تأسيس فرقة “طريق الخبز” بمبادرة من الكاتب سلمان إبراهيم وخمسة من هواة المسرح، كنا نعمل تحت القصف، وقدمنا عرضين “دكاكين” و”حفلة عربية في زمن الحرية”، من دون أن نخضع لأي من لجان الموافقة والرقابة، ومن دون أن نشعر بالخوف من أي سلطة مع أن العروض كانت انتقادية، تتناول هيئات الثورة قبل أن تتناول النظام. صحيح أن القصف المستمر والدمار الكبير كان يمنعنا من بناء حياة طبيعية، ويشغلنا بتأمين أساسيات العيش كالكهرباء والماء والمؤن الغذائية ومستلزمات علاج المصابين والمرضى. كانت الظروف قاسية، ولم يستطع الكثيرون الصمود حتى النهاية، وربما لم نقدر أن نبني حياة بالمعنى الطبيعي على المستوى العام، لكن كان لدينا مساحة لأن نفعل ونعبر عن ذواتنا”.
وحول التنظيمات الإسلامية المتشددة، يضيف كريم: “كان تنظيم “داعش” موجوداً في أجزاء من حلب الشرقية، واجتمعت التشكيلات العسكرية وحاربته وطردته، بقيت “النصرة” بأعداد قليلة جداً، لكن كان لها سطوة ووزن. كنا كإعلاميين نسمي مناطق تواجد هذين التنظيمين بـ “مثلث بيرمودا”، ونتجنب المرور بها كي لا نتعرض لخطر الاختطاف أو الاعتقال، لاسيما بعد اختطاف عبد الوهاب الملا عام 2013. هذا دفعنا لأن نخرج في مظاهرات أسبوعية ضدهم، ونكتب منشورات للتنديد بممارساتهم”.
يقول موضحاً سبب دخوله مجال الإعلام والتوثيق: “في الماضي كنا نسمع الكثير من القصص عن أشخاص وأحداث هامة، لكنها قصص مروية ليست موثقة بالصور، أثناء الثورة كان هناك في كل يوم حادثة هامة، وشخصية جديدة، وكنت أقول لنفسي يجب أن تُكتب وتُوثق بالصورة لتبقى بعد موتنا”. ويضيف: “أكثر حدث مأساوي حرصتُ على توثيقه وإيصاله كان قصف النظام لمدرسة “عين جالوت” عام 2014، واستشهاد 32 طفلاً في المجزرة. كان هؤلاء الأطفال يُحضّرون لافتتاح معرض فني يضم رسومهم، بعد أن خضعوا لدورة تدريبية أشرفت عليها معلمة رسم قادمة من تركيا. كنت طوال الوقت برفقة المعلمة والأطفال أًصوّر التدريبات، ولا أدري هل المصادفة أم القدر جعلني أتغيب قليلاً، وأتأخر ربع ساعة عن موعد افتتاح المعرض، وحين عدت إلى المدرسة كنت أول من يشاهد آثار القصف واستشهاد الأطفال.
لا يمكنني الادعاء أن هذا أجمل مشهد صورته على العكس هو الأبشع، لكنه أكثر مشهد أثر بي، وحاولتُ في الفيلم أن أظهر الأطفال بأجمل صورة، فأنا اعتبرهم شهداء الفن”.
يصف سيرجية مشاعره عند خروجه من حلب، ويقول: كنتُ كالسمكة التي أُبعدت عن البحر، تختنق وتختلج وتحاول العودة إلى مكانها، وحتى لو وُضعت في حوض ماء مريح فلن تكون سعيدة كما كانت في وسطها الطبيعي.
*كيف وصلت باريس، وهل كنتَ تتصور أن أرشيفك سيغدو فيلماً وينال جوائز وأنت تغادر حلب؟
لم أفكر بالجوائز، كنتُ مهتماً بصناعة الفيلم، وكل ما كنت أخشاه أن يستولي أحدهم على الأقراص التي أحفظ الأرشيف عليها، أثناء مرورنا بحواجز الروس والنظام والفصائل المسلحة، هذا يعني ضياع كل ما فعلته، كنتُ أفكر بخطورة الموقف وبحماية الأرشيف كما أحمي نفسي.
وصولي إلى فرنسا لم يكن صعباً كباقي اللاجئين لكوني عملت لصالح الصحافة الفرنسية، وأرسلت ريبورتاجات للقناة الفرنسية الأولى وقناة آرتي. تواصلت مع السفارة الفرنسية بعد دخولي إلى تركيا، وكان حصولي على الفيزا سهلاً، لكني لم أكن أعرف من الفرنسية سوى بعض الكلمات التي تعلمناها في المدرسة، وحين أصبحتُ في باريس وجدتني أمام عالم مختلف وثقافة جديدة. عشتُ لفترة في “بيت الصحفيين”، بعدها عشت عند عائلة فرنسية، وهذا ساعدني على تعلم الفرنسية، وبدأت شيئاً فشيئاً أرمم حياتي، وأشتغل على الفيلم. كان عملاً جباراً أن أعيد مشاهدة الخمس سنوات التي صورتها، وأن أختار المشاهد، وأجري اتصالات مع شركات الإنتاج، بالإضافة إلى جائحة كوفيد-19. اعتمدتُ على نفسي وبعض المنظمات السينمائية مثل “ملتقى السينمائيين في المنفى” الذي ساعدني على تأمين جهاز المونتاج. أقمتُ علاقات عديدة مع المخرجين والمنتجين، وأسعى لأن أدرس السينما في معهد أكاديمي.
وماذا عن “وعد حلب”؟
حاولتُ أن أصحب المُشاهد في جولة داخل “حلب الثورة”، حاولتُ أن يصله شعور أولئك الذين عاشوا الأحداث، أن يضع نفسه مكان الشخصيات التي تمر في الفيلم، ويتساءل ماذا سأفعل لو كنت مكان كريم أو سعيد، هبة، الدكتور محمد سالم، أو المنشد أحمد حبوش؟ هل أختار الخروج أم البقاء، هل حياتي أهم من مستقبل البلد، هل أولادي أهم من أولاد سوريا كلها؟. الفيلم يحكي عن الخيارات المصيرية التي نتخذها بيننا وبين وطننا وأقرب الناس لنا، عن الوعد الذي نقطعه على أنفسنا، هل نستطيع الوفاء له، وهل التخلي عنه خطأ؟ لا يوجد جواب مطلق، ونحن السوريون أبطال لأننا ثرنا ضد الديكتاتور، لكننا بشر ويحق لنا أن نخطئ.