حين تصير فاغنر وأخواتها من الميليشيات بديلاً للجيوش النظامية!
الاستماع للمقال صوتياً
|
واشنطن – وايتهاوس
مقال الرأي بقلم مرح البقاعي
من اللافت لمتابع الأعمال القتالية الجارية على الأرض الأوكرانية إثر الغزو الروسي الأخير للبلاد، أن من أعلن سقوط مدينة باخموت مؤخراً هو قائد ميليشيات فاغنر الروسية وليس الجيش النظام الروسي، وهو ثاني أكبر جيش في العالم!
مقاتلو فاغنر هم مجموعة من المرتزقة أصبحوا اليوم في تنافس شديد وغير متكافئ من حيث المبدأ مع الجيش الروسي، في حين وصلت الحرب إلى ذرواتها في النزاع على أقليم دونيتسك بين صاحب الأرض والغزاة الروس.
ومع اشتداد أوار المعارك، وجد الطرفان الروسيان المقاتلان أنه لابد من الاعتماد على بعضهما البعض لتدبير شؤون المعارك. فمجموعة فاغنر تحتاج إلى دعم الجيش الروسي كمصدر للإمدادات، بينما يحتاج الجيش الروسي إلى فاغنر لسد الثغرات والانخراط في مهام شبه انتحارية تفضل القيادة العليا الروسية تجنّبها.
وبينما لم يستطع الجيش الروسي الجرار حتى الآن من حسم معركته لأسباب عديدة، فإن التنافس يبدو على أشده بين زعيم فاغنر، يفغيني بريغوزين، وبين نظرائه في الجيش النظامي.
وقد ذكر تقرير نشرته صحيفة واشنطن بوست مؤخراً أن زعيم مجموعة فاغنر كان قد عرض تزويد أوكرانيا بمعلومات استخبارية عن مواقع القوات الروسية مقابل سحب كييف قواتها من الحرب. لكن بريغوزين نفى بقوة ما جاء في التقرير، زاعماً أن الأمر برمته تم اختلاقه من قبل أعدائه في الكرملين. ولكن سواء تم إثبات التسريب أم لا، فإن التقرير نفسه يسلط الضوء على لعبة شد الحبل الدائرة بين جيش بريغوزين الخاص من جهة، والمؤسسة العسكرية الروسية من جهة أخرى، حيث كل منهما كان يطلق النار على الآخر حتى أثناء قتالهما عدواً مشتركاً في الميدان.
قد لا يخفى على أحد أن بريغوزين انتقد بشدة أداء الجيش الروسي منذ اندلاع الحرب في بدايات شهر فبراير من العام 2022. والرجل الذي يشار إليه تندّراً بلقب “طبّاخ بوتين” بسبب عقود الطعام المربحة التي أبرمها مع الكرملين، لا يخشى تسجيل آرائه العسكرية القوية التي هي من اختصاص وزير الدفاع الروسي سيرجي شويغو، أوالجنرال فاليري غيراسيموف، رئيس الأركان العامة للجيش الذي عينه فلاديمير بوتين الخريف الماضي كقائد عام للقوات الروسية في أوكرانيا.
لقد كانت الهزيمة السريعة للقوات الروسية في خاركيف في سبتمبر الماضي مقيتة للغاية بالنسبة لبريغوزين، لدرجة أنه تحدث مع بوتين شخصياً، شاكياً له من كيفية إدارة الحرب. ولم يكتف بخطابه المباشر لبوتين، بل وصف وزير الدفاع ورئيس الأركان بالرجلين الكسولين والحمقى اللذين يرسلان الشباب الروسي إلى المعركة دون إمدادات لوجستسة تكفي.
العلاقة بين القيادة العسكرية الروسية وفاغنر لم تتحسن مع مرور الوقت، بل ساءت بشدة إثر إعلان فاغنر سقوط باخموت في قبضتها، ورفعت علم المجموعة الخاص في المدينة المدمرة عن بكرة أبيها قبل أن ترفع العلم الروسي التي تقاتل باسمه.
لكن، في الوقت عينه، من الصعب تخيّل زعيم فاغنر يتصرف بهذه العنجهية والتجاوز للقيادات والمؤسسة العسكرية الروسية ما لم يكن بوتين متعاطفاً معه على أقل تقدير.
وعلى الرغم من التكهنات بأن بريغوزين سينقلب قريباً على بوتين أو يستعد لتأسيس حزب سياسي خاص به، يبقى التحالف بين القوتين أمراً قائماً بحكم الضرورة القصوى وظروف المعركة. فالحقيقة المرة أن كل طرف يحتاج إلى الآخر.
وبغض النظر عن تصرفات بريغوزين الصادمة، إلا أنه لا يمكن التغاضي عن خقيقة أن قواته تشكل مصدراً أساساً للقوة البشرية للجيش الروسي، في وقت يسعى فيه بوتين إلى إرجاء تعبئة ثانية للقوات الروسية.
وليس من الصعب أن نفهم سبب رغبة بوتين في تأخير تعبئة أخرى. فقد كان أول استدعاء لـما يقارب 300 ألف رجل في سبتمبر 2022 حدثاً مدوياً في المجتمع الروسي، وقد دفع مئات الآلاف من الرجال الروس المستهدفين في قوائم الاحتياط إلى مغادرة البلاد.
من نافلة القول أن الطرفان المقاتلان يشتركان في هدف واحد على الأرض الأوكرانية، إلا أن التكتيك العسكري يختلف بين فاغنر التي تخوض حرب عصابات وتخطط لقضم سريع لمدن صغيراة، ما يساعدها على إبراز عاجل ودراماتيكي لتفوقها العسكري، وبين الجيش النظامي الروسي الذي كان منذ بدايات غزواته المتكررة للأرض الأوكرانية يخطط لحرب طويلة الأمد لا يرتجي منها انتصاراً سريعاً بل الاستيلاء على الأرض ببطء لكن بتصميم، مع الإفادة من عامل الوقت والحرب الممتدة.
فهل غدت فاغنر ضمن ظروف الحرب على أوكرانيا قوة ميليشياوية لا تقهر؟ وهل ستكون ميليشيات المرتزقة في مستقبل الحروب قوة الحسم في المعارك المتنقلة في العالم، وليس نموذج ميليشات الحرس الثوري الإيراني العابرة للحدود – ولو اختلف في الاستراتيجية القتالية والأهداف مع أشباهه في ميليشيا فاغنر – إلا صورة أخرى لهذا الواقع الفوضوي؟ أتساءل!