الطريق إلى دمشق على جسر الواقعية
الاستماع للمقال صوتياً
|
واشنطن – خاص وايتهاوس
مقال رأي بقلم نشمي عربي
في مقال سابق لي نشره موقع WHIA نهاية الشهر الماضي بعنوان “اللاعب واللعبة.. عن محور الرياض/دمشق”، تساءلت إن كان الإنفتاح السعودي على النظام السوري (والذي توقعت أنه سيحصل سواءً في حدوده الدنيا أو القصوى) سيكون محكوماً فقط بالنزال الديبلوماسي بين الرياض وطهران والذي أعلنه البلدان من بكين، أم أن للموضوع بعداً آخر يتعلق باصطفافٍ صار واضحاً هو أقرب إلى موسكو من واشنطن.
اليوم وقد أصبح هذا الانفتاح حقيقةً لاتقبل النقاش، وكل المؤشرات تشير إلى أن المملكة ماضية فيه ولاعودة عن قرارها، وإن كانت حدوده الحقيقية لم تظهر بوضوح تام بعد، أعود للتمسك بالتساؤل نفسه، محاولاً في الوقت ذاته البحث عن أسباب أو مرتكزات محلية أو إقليمية تقف وراء هذا التوجه إضافةً للبعد الدولي أعلاه.
هذا التقصي عن حوامل محلية وإقليمية مبرر تماماً في ضوء السياسة الخارجية الجديدة للمملكة التي يقودها ولي العهد السعودي والتي أتى التعبير عنها بوضوح لا لبس فيه على لسان وزير خارجيته الأمير فيصل بن فرحان في حديثه لمؤتمر السياسة العالمية (WPC) المنعقد في “أبوظبي” من 09-11 ديسمبر 2022، حيث قال:
(( إن سياستنا الخارجية مدفوعة بحاجتنا إلى بناء ازدهار مستدام أولا للشعب السعودي ثم لشعوب منطقتنا، ونأمل لاحقاً لشعوب العالم )).
يحمل ولي العهد السعودي خطةً طموحة للنهوض باقتصاد بلاده اعتمدت الكثير من التوجهات (الغير تقليدية) الجديدة لبلد كان دوماً (تقليدياً) في كل شيء، مدعوماً بشعور قوي لدى السعوديين، خصوصاً في صفوف الشباب، بالحاجة الملحة لهذه التطورات التي أدخلتها سياسات ولي العهد وتوجهاتها الجديدة.
في الوقت الذي لازلت فيه مؤمناً بأن الهم السوري بكل مايحمله من تحديات وتناقضات تطال السوريين جميعاً، شعباً ونظاماً ومعارضات، هو ثانوي في حسابات الأشقاء السعوديين في سعيهم للتعامل مع التحديات التي تطال جهودهم لإنفاذ سياساتهم الاقتصادية والاجتماعية الجديدة والطموحة لبلدهم وللمنطقة، إلا أن هذا لايمنع أن نحاول جميعاً كسوريين التعامل مع المستجدات بإيجابية وواقعيه.
يحمل ولي العهد السعودي خطةً طموحةً لبلده وللمنطقة تستند في مركزها لرؤيته المعروفة بـ (رؤية 2030) والتي من المخطط لها أن تكون نقلةً نوعيةً ضخمةً لبلده (وربما للمنطقة) تعتمد سياسات جديدة تماماً، أقل مايقال فيها هو أنها (غير تقليدية) وتتبنى نهجاً عصرياً يتحلى بالكثير من الواقعية التي لاتجد غضاضةً في تحديد نقاط الضعف وطرق التعامل معها، وبحزم وتصميم.
في مقاربته لقضية الانفتاح على النظام السوري ينطلق ولي العهد السعودي من مقاربةٍ جريئة تبتعد عن النمطية وتستند لكثير من الواقعيه، التي ربما ترى أنه إذا كان استمرار النظام أمراً واقعاً فإن التعامل معه هو أمر لامناص منه، مع آمال بأن يكون لهذا الانفتاح منعكساته الإيجابية على الشعبين والبلدين والمنطقة، بما يحقق مناخاً يراه أكثر ملائمةً للتماهي مع خططه الطموحة لبلده والمنطقة، الأمر الذي تحدث عنه بوضوح وزير خارجيته في المؤتمر الآنف الذكر.
هذه الواقعية ربما ستكون أكثر براغماتيةً عندما ستحاول تجنب النقاط الساخنه في أي حوار مع النظام السوري، كأن تنسى مثلاً محاولة إبعاده عن طهران ومحاورها في المنطقة، لأن أي حوكمة عقلانية للأمر ستشي بالنتيجة المعروفة سلفاً للأشقاء السعوديين قبل غيرهم، وهي أن النظام اليوم يفتقد الرغبة والأهم من ذلك القدرة على تحقيق هذا الإبتعاد الذي ربما لن يعود أمراً ملحاً في تزامنه مع التفاهمات السعودية الإيرانية خصوصاً إذا ماكتب لها النجاح.
يتبنى عرب آخرون خطأً أكثر براغماتيةً يقوم على فكرة إعطاء النظام أسباب قوة تدعمه في موقفه مع طهران على أمل أن يساهم ذلك في منحه قدرة أكثر في الابتعاد عنها لاحقاً، هؤلاء العرب الآخرون لايملكون في النهاية ثقل المملكة لدعم الفكرة التي لاأعرف مدى تبني الأشقاء السعوديين لها والتي سيكون من الصعب جداً مجرد تخيل أي أساس واقعي يدعم إمكانية تحقيقها.
سيكون براغماتياً جداً وميكافيللياً جداً أن يقتنع الطرفان، العربي والنظام، بأن التركيز على المشاكل (القابلة للحل) ربما يكون أكثر جدوىً وفائدةً، والتي لاأعتقد أنها ستتجاوز أمرين لاثالث لهما:
– وقف تصدير الكبتاجون
– وتأمين عودة اللاجئين السوريين.
الأمران الذي سيطالب النظام بالمقابل بدعم مالي كبير نظيرهما بحجة تمويل مكافحة المخدرات وتأمين البنية التحتية اللازمة لعودة اللاجئين!
ليس من المفيد الدخول في جدال حول مدى واقعية الأرقام الخيالية التي جرى ويجري الحديث عنها لكميات الكبتاجون التي يتم إنتاجها وتهريبها وترويجها، وإن كان من المفيد جداً أن نقر بأن تضخيمها والمبالغه بها كان أمراً في منتهى اللاواقعية أريد منه وضع (حدود الممكن) للمطالبات العربية من النظام.
السوريون المكلومون في وجدانهم ومصيرهم، والذين يتمنون للأشقاء السعوديين كل ما من شأنه القيام بنهضة بلدهم ضمن سياسات ولي العهد الشاب الطموحة، يتمنون عليهم أن تكون مقاربتهم للوضع السوري بنفس الواقعية التي تتسم بها سياسات ولي العهد الطموحة.
إن أي مقاربة للشأن السوري بعيداً عن المقررات الأممية والقرار 2254 وتأمين عملية انتقال سياسي سلمي وتحديد مصير المعتقلين ستكون أمراً أبعد مايكون عن الواقعية، ليس فقط لأن شروط تحققها على الأرض لن تكون متوفرة، بل لأنها لن تحظى كذلك بدعم المجتمع الدولي وأطراف دولية وإقليمية وازنة متواجدة على التراب السوري بقوة.