إيلي كوهين ونتفلكس، حقائق وأوهام
الاستماع للمقال صوتياً
|
نتفلكس الأميركية والوعي البصري العربي- 3
مقال رأي بقلم نشمي عربي
قبل مشاهدتي الأولى لمسلسل نتفلكس “الجاسوس” (The Spy) عام 2019 كنت قد قرأت عشرات المراجع الغربية عن قضية إيلي كوهين، وكذلك تابعت العديد من المقابلات والشهادات عن ظروف تجنيده وعمله وكشفه والقبض عليه، وبعد مشاهدة المسلسل شعرت بحاجة ملحة لمعرفة المزيد عن هذا الموضوع لمحاولة فهم العديد من النقاط الغامضة فيه، والتي زاد من غموضها روايات عديدة ومتناقضة من طرف جهات مختلفة، وفي غياب رواية رسمية معتمدة سواء من الطرف الإسرائيلي الذي جَنَّدَ كوهين واستخدمه أو السوري الذي اكتشفه وألقى القبض عليه، فقد كان لابد من العودة للعديد من المراجع والإستماع لشهادات العديد من الباحثين الغربيين والإسرائيليين والسوريين، منها مقابلات صحفيه لزوجته نادية وابنته صوفي مع أجهزه إعلام متعدده، وعندما شرعت في كتابة هذه المقالات حاولت العودة لنقاط معينه في كل ماسبق محاولاً الوصول للفرضيات الأقرب للواقع حول هذا الموضوع الغامض، والتي شجعني بعضها على تناوله.
في تقاطع دقيق للمعلومات بين جهات متعددة ومختلفة، فإن الثابت هو أن “إيلياهو شاؤول كوهين” ولد في الإسكندرية عام 1924 لوالدين سوريين هاجرا من حلب إلى مصر عام 1914، وبعيد إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948 يهاجر إليها الجزء الأكبر من عائلته ويبقى هو في مصر ليشارك في النشاطات السرية للوكالة اليهودية والمنظمات الصهيونية.
الأمر الذي لم يذكره المسلسل هو أن كوهين (وحسب شهادة شقيقه موريس) تمكن بطريقة ما من مغادرة مصر إلى إسرائيل سراً بتاريخ لم يحدده بدقه ولكن غالباً بين عامي 1950-1952 ليبقى لفتره قصيره جداً خضع فيها لدورة خاصة ستؤهله للإنضمام لخلية (سوزانا) وهي شبكة تخريب وتجسس تعمل لحساب الوحدة 188 للإستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) استهدفت المصالح البريطانية والأميركية في كل من القاهرة والاسكندرية بهدف الوقيعة بين الغرب ونظام ثورة يوليو الناشىء، والتي شكل اكتشافها من قبل السلطات المصرية واعتقال أعضائها سقطة استخباراتية تاريخية لإسرائيل أدَّت إلى هزة سياسية كبرى عُرِفَت وقتها بفضيحة لافون وأدت لاستقالة وزير الدفاع “بنحاس لافون” وتنحية رئيس الإستخبارات العسكرية “بنيامين جبلي” وخروج رئيس الوزراء “موشيه شاريت” وعودة “بن غوريون”.
كوهين كان من ضمن المقبوض عليهم ولكن دوره الثانوي في القضية وعدم كفاية الأدلة ضده دفع السلطات المصرية لإطلاق سراحه، بينما حكمت على كل من موشيه مرزوق وصاموئيل عازار بالإعدام وتم تنفيذ الحكم، الأمر الذي سيترك أثره في شخصية كوهين لاحقاً، وفي عام 1957 يغادر كوهين مصر نهائياً إلى إسرائيل التي كانت تعيش ذروة الانعكاسات السياسية لفضيحة لافون ويقدم تقريراً عن دوره في عملية (سوزانا) الفاشله.
بالتزامن مع عرض نتفلكس لمسلسل “الجاسوس-The Spy” في سبتمبر 2019 ينشر المؤرخ والصحفي الإسرائيلي المتخصص في قضايا الإستخبارات “يوسي ميلمان” مقالاً مهماً في صحيفة “جيروزاليم بوست” بعنوان “جاسوس إسرائيل الأسطوري” يؤكد فيه (خلافاً للمسلسل والروايات العديدة المتداولة) أن بداية إيلي كوهين لم تكن مع جهاز الموساد بل مع الإستخبارات العسكرية (أمان) وكمترجم فقط، في ذلك الوقت كانت الوحدة 188 المسؤولة عن التجسس في الدول العربية تتبع هذا الجهاز قبل أن يتم تحويلها لاحقاً للموساد، الوحدة نفسها كانت مسؤولة عن عمل الشبكة التي عمل معها كوهين في مصر وأدى سقوطها لاعتقاله وإعدام اثنين من أصدقائه، ولعل هذا مادفع كوهين لرفض عروض متكررة من (أمان) للانضمام لهذه الوحده ربما خشية المصير نفسه، خصوصاً أنه بدأ هو زوجته اليهودية العراقيه نادية بتكوين عائلة صغيره في منطقة (بيت يام) ليس بعيداً عن سكن عائلته.
بين ضغوطات الإستخبارات العسكرية (أمان) على كوهين للعمل مع وحدتها للتجسس ورفضه المتكرر ينتهي الأمر بكوهين بأن يترك العمل مع (أمان) نهائياً ويعمل كمدقق حسابات لدى متجر التجزئة “هاماشبير” في تل أبيب.
تطوران مهمان شكلا تحدياً كبيراً لإسرائيل في تلك الفترة:
الأول هو المخاضات السياسية التي تمر بها سورية وانتهت بالوحدة مع مصر والثاني هو تأمين مستوطناتها الشمالية المكشوفه من قبل التحصينات السورية في الجولان.
بقدوم عام 1960 كان واضحاً أن إسرائيل بحاجة ماسة لأن يكون لها عين وأذن في دمشق، تستطع أن تضع الحكومة الإسرائيلية بصورة الأجواء السياسية هناك وجمع أي معلومات تتعلق بنشاط المنظمات الفلسطينية، المهمة الملحة التي أحالها بن غوريون العائد لرئاسة الحكومة إلى الجنرال “مائير عميت” الذي استلم قيادة الإستخبارات العسكرية (أمان) بعد إزاحة “بنيامين جبلي” لمنصب عسكري آخر بسبب دوره في فضيحة لافون المدوية، ليحيلها “عميت” بدوره للوحدة 188 المسؤولة عن هذا النوع من النشاطات في (أمان) والتي رفض كوهين مراراً الإنضمام إليها.
كان بديهياً أن يكون الخيار الأفضل هو يهودي من أصول عربيه وبملامح شرقيه، ومعروف تماماً للجهاز، وعندما تم استعراض من تنطبق عليهم هذه المواصفات برز إسم إيلي كوهين بمواصفات مثاليه لهذا الدور، الآن لن يكون بوسع الجهاز قبول رفض إيلي للإنضمام للوحده فالمهمة ملحة جداً، في هذه الظروف تحديداً (وأيضاً بشهادة شقيقه موريس على موقع “Jewish Magazine”) تستغني متاجر (هاماشبير) عن خدمات مدقق حساباتها، ليصبح إيلي كوهين المسؤول عن عائلة صغيره عاطلاً عن العمل، وينتهي به الأمر بقبول عرض (أمان) للإنضمام للوحدة التي ستدير نشاطه فيما بعد، كل هذه التفاصيل أغفلها المسلسل تماماً أو حَوَّرَها ..!!
يخضع كوهين لدورة إعداد مكثفة تشمل بالإضافة للخبرات المطلوبة لعمله التجسسي تدريبه على اللهجه السورية ومعلومات أولية في العبادات الإسلامية ويتم إفهامه بأنه سيرسل للعمل في دمشق كسوري مغترب في الأرجنتين يعود إلى بلد آبائه الأصلي، ولذلك كان لابد من أن تبدأ رحلته إلى دمشق من العاصمه الأرجنتينية بوينس آيرس التي كانت فيها جالية سورية مزدهرة رعيلها الأول وصل الأرجنتين بجوازات تركية صادره عن الدولة العثمانية.
يصل كوهين بوينس آيرس في شباط/فبراير 1960 عن طريق زيوريخ وبجواز سفر واسم أوروبيان، بعد أن أبلغ عائلته أنه حصل على عمل كمسؤول مشتريات لوزارة الدفاع الأمر الذي سيتطلب منه التواجد لفترات طويلة في أوروبا.
في الفترة الأولى لوجوده في بوينس آيرس يتعلم كوهين اللغة الإسبانية التي ستكون ضرورية أيضاً لتغطية شخصيته الجديدة، وبعد حوالي ثلاثة شهور من وصوله يستقبل عميلاً ل (أمان) حاملاً له من تل أبيب الأوراق التي تثبت أنه “كامل أمين ثابت” المولود في لبنان لوالدين سوريين ويبدأ بالتدرب على القصة التي ستغطي تفاصيل حياته والتي من خلالها سيبدأ بارتياد أماكن تواجد السوريين كالمطاعم والنوادي والمتاجر السورية.
الشطحات الخيالية في المسلسل حول فترة وجود كوهين في بوينس آيرس كانت مضحكة ومبنية على خيالات لم تحصل على الإطلاق، الأمر الذي عبر عنه المؤرخ والصحفي الإسرائيلي “يوسي ميلمان” في مقاله للجيروزاليم بوست حيث قال:
((المسلسل يقدم بالأساس الرواية الإسرائيلية للقضية ويتجاهل الرواية السورية، كما أنه مليئ بالأخطاء الواقعية))، أقتبس حرفياً من مقاله الأصلي: ((It is also filled with factual errors)).
السقطة الكبرى للمسلسل كانت في تبنيه للسردية المتداولة بشدة حول علاقة كوهين بأمين الحافظ وأنها بدأت خلال وجوده في بوينس آيرس في مرحلة إعداده للإنتقال لدمشق ووجود الحافظ هناك كملحق عسكري، وهذا الأمر عاري عن الصحة تماماً لأسباب عديدة، أولها أن الحافظ وصل بوينس آيرس في أول يوم من عام 1962 بينما كان كوهين قد غادرها على الأقل شهرين قبل ذلك ..!! الحافظ لم يلتقِ كوهين على الإطلاق قبل القبض عليه.
الأمر الآخر هو أن المسلسل عرض أن أحمد سويداني كان أيضاً في بوينس آيرس كمساعد للحافظ، وهذا الأمر أيضاً عاري تماماً عن الصحة فسويداني لم يكن يوماً قريباً من الحافظ ليعمل كمساعد له يأخذه معه للأرجنتين، وكل من لديه اطلاع يعلم أن سويداني كان دوماً قريباً من اللواء صلاح جديد الذي دفع به لاحقاً ليكون رئيساً لشعبة المخابرات ومن ثم رئيساً للأركان، سويداني وبحسب أقاربه ومن يعرفونه لم تطأ قدماه الأرجنتين يوماً.
الأمر الأهم من كل ماتقدم والذي ينفي بشكل قاطع كل روايات المسلسل عن اقتراب كوهين من أي دبلوماسي أو مسؤول في السفاره السورية في بوينس آيرس هو أن سورية وخلال فترة وجود كوهين في الأرجنتين لم يكن لها أي تمثيل دبلوماسي هناك لأنها كانت منضوية في وحدة مع مصر وكان التمثيل الدبلوماسي في الأرجنتين منوطاً بالسفارة المصرية تحت اسم (سفارة الجمهورية العربية المتحدة) ولم تستعد السفارة السورية دورها إلا بعد الإنفصال الواقع في نهاية سبتمبر/أيلول 1961 والذي أرسلت حكومته الحافظ ملحقاً عسكرياً هناك، وكان كوهين قد غادر بوينس آيرس إلى غير رجعه.
الحقيقه أن الشخص الوحيد الذي قابله كوهين في بوينس آيرس ومن خلال تردده على النادي العربي واستفاد لاحقاً خلال وجوده في دمشق من معارفه هو الصحفي السوري “عبد اللطيف الخشن” الذي كان يصدر صحيفة “العالم العربي” الناطقة بالعربية في بوينس آيرس، وعندما علم بنية صديقه السوري المغترب ( كامل أمين ثابت) زيارة سورية حمَّلَهُ رساله إلى ابنه المقيم في دمشق “كمال الخشن” أوصاه فيها (بحسن نية مطلق) أن يساعد ثابت في دمشق في حال لزمه شيء كونه يزورها للمرة الأولى.
من بوينس آيرس وفي بداية الثلث الأخير من عام 1961 وتزامناً مع الإنفصال يغادر كوهين الأرجنتين إلى إسرائيل عن طريق أوروبا ليتلقى تعليماته الأخيرة بشأن مهمته في دمشق وتدريباً على استعمال اللاسلكي ليعود بعدها إلى أوروبا لتنتهي رحلته في مدينة (جنوة) الإيطالية التي يتم فيها تسهيل تعارفه مع “ماجد شيخ الأرض” رجل الأعمال السوري الذي كان على علاقة بالمخابرات المركزية الأميركية من خلال واجهة (حلف الناتو) ويتم تقديم كوهين له على أنه المغترب السوري في الأرجنتين والعائد إلى سورية “كمال أمين ثابت” والذي أفهموا شيخ الأرض أنه يعمل أيضاً لحساب الناتو وطلبوا منه تسهيل دخوله إلى سورية التي يسافرا إليها معاً على الباخرة “اسبيريا” المتجهة إلى بيروت التي يصلاها يوم 8 يناير/كانون ثاني 1961 ومعهما سيارة شيخ الأرض التي أحضرها معه من أوروبا على نفس الباخرة وفيها أمتعة كوهين وأدواته التجسسية، لينتقل الإثنان صباح يوم 10 يناير/كانون الثاني إلى دمشق عبر نقطة “جديدة يابوس” الحدودية والتي كان ينتظرهما فيها صديق شيخ الأرض الموظف في الأمن العام السوري “نصر الدين وانلي” لتسهيل إجراءات قدومهما.
في دمشق يستأجر “كمال أمين ثابت” شقة تعود للموظف في مصرف سورية المركزي “هيثم القطب” في بناء “سعيد رميح” الواقع قرب مدرسة الصناعه في منطقة أبورمانه والذي يبعد عشرات الأمتار عن قصر الضيافه، المنطقة التي تعج بالسفارات الأجنبية وبيوت الديبلوماسيين، يحافظ كوهين على علاقته بمؤجره (هيثم القطب) ويتردد لزيارته في مصرف سورية المركزي ويحصل من خلاله على بعض المعلومات عن الوضع المالي والإقتصادي للبلد والتي كان من الطبيعي أن يبدي اهتماماً بها كرجل أعمال عائد لبلده الأصلي.
إحدى السقطات الفنية لمسلسل نتفلكس أنها صورت منطقة أبورمانه على أنها حي شعبي في مدينة متواضعه والحقيقه أن المنطقة كانت ولاتزال من المناطق الراقية والحديثه في دمشق التي كانت وقتها من أجمل وأنظف المدن العربيه، هذه السقطة كان من الممكن جداً تلافيها لو تم التصوير مثلاً في منطقة تشبه منطقة أبورمانه مثل (المعاريف) في مدينة الدار البيضاء التي تم تصوير أجزاء من المسلسل فيها، كما في هنغاريا والمملكة المتحدة، خصوصاً وأنه رصدت له ميزانية مرتفعه.
السقطة الفنية الأخرى هي أن الشقة التي استأجرها كوهين لم تكن مطلة على مبنى (الشعبه الثانية) كما جاء في المسلسل، الصحيح هو أن شقة كوهين كانت قريبة من مبنى (المقر العام) الذي هو (خلاف تسميته) ذو طابع إداري وليس له أي قيمة عسكرية أو أمنيه مهمه.
بناء لتوصية عبد اللطيف الخشن في بوينس آيرس يتصل كمال أمين ثابت بكمال الخشن لتوصيل رسالة والده إليه وتنشأ بين الرجلين علاقة عادية تماماً، ومن خلال تردد ثابت على منزل آل الخشن بدمشق يتعرف بالصدفة المحضة إلى جار لهم اسمه “معذى زهر الدين” وهو ابن أخت “عبد الكريم زهر الدين” الذي كان رئيساً لأركان الجيش في مرحلة الإنفصال.
“معذى زهر الدين” في تلك الأثناء كان موظفاً مغموراً في وزارة الشؤون البلدية والقروية ولم يكن ضابطاً عاملاً في الجبهة، ولم يأخذ كوهين لزيارة تحصينات الجيش السوري فيها لأنه هو شخصياً لم يكن قادراً على القيام بذلك، وكل ماجاء في المسلسل عن موضوع زيارته للمواقع الأمامية كان خيالاً بحتاً، الحقيقة الثابته هي أن (كمال أمين ثابت) كأي فرد عادي زار مدينة (الحمة) التي كانت لاتزال تحت السيطرة السورية للإستحمام في حماماتها الكبريتية، بعد أن حصل على تصريح مرور من شعبة المخابرات كأي شخص يريد زيارة المنطقة، وهذا لايتيح له زيارة أو رؤية أية تحصينات أو مناطق عسكرية أو خلافه.
بعد انقلاب البعث على حكومة الإنفصال في مارس/آذار 1963 يتم استدعاء “معذى زهر الدين” للخدمة العسكرية ويتم فرزه ليكون مسؤولاً عن “الحرس القومي” في إدلب، وهو منظمة شعبيه شبه عسكرية تتبع البعث، (تشبه الجيش الشعبي) وهي رغم ارتباطها في أذهان السوريين بقصص غير محببه إلا أنه لم يكن لها بالحقيقة أي نفوذ سياسي أو أمني حقيقي من الممكن أن يستفيد منه كوهين الذي حافظ على علاقته بمعذى بعد انتقاله لإدلب، وأغلب ظني أن فرزه للحرس القومي وبعيداً عن العاصمه كان بسبب صلة القرابه بينه وبين عبد الكريم زهر الدين وتوجس البعثيين منها.
كنت ولازلت وسأبقى من منتقدي البعث ولكن الحقيقه أن كوهين وخلافاً لكل ماجاء في المسلسل لم تكن له يوماً أي علاقة بالبعث ولم يقابل ميشيل عفلق أو غيره من قيادات البعث، ولم يتقدم بطلب انضمام للحزب، وهو رغم قيامه بسلسلة طويلة من الأخطاء التي لايقوم بها جاسوس هاوي فلن يقدم على مثل هذا الخطأ الجسيم الذي لو فعله لتم سحبه فوراً وإعادته من قبل مشغليه.
أستند في ذلك إلى شهادة الأستاذ مروان حبش أحد قيادات البعث في تلك الفترة والوزير وعضو القيادة القطرية الأسبق، والتي يؤكد فيها أن إيلي كوهين لم تكن له يوماً علاقة بالبعث أو بأمين الحافظ، والحقيقة أن شهادة الأستاذ حبش على قناة الجزيرة والتي تابعتها عدة مرات، واستعلمت منه مشكوراً حول نقاط عدة فيها، هذه الشهادة تتمتع عندي بمصداقية عاليه جداً لسببين مهمين:
الأول هو أنني أعلم أن الأستاذ حبش أقرب وبالمطلق للتيار البعثي الذي انقلب على أمين الحافظ بل كان جزءاً منه، إلا أن الرجل اختار (كما كان دوماً) أن يكون أميناً وحيادياً في شهادته بعيداً عن التراشقات البعثية-البعثية بالإتهامات.
أما السبب الثاني والذي لايعلمه الأستاذ حبش فهو أنني وبجهد كبير تمكنت من مقاطعة كل معلومه وردت في شهادته مع ماورد في شهادات ودراسات العديد من الباحثين الغربيين وحتى الإسرائيليين والمتاحة لمن يرغب بالإطلاع عليها، وكانت في منتهى الدقة والأمانه.
للدقة فقط فإن المناسبة الوحيدة التي حضرها كوهين بصفته كمال أمين ثابت كانت في إدلب أثناء زيارته لصديقه معذى زهر الدين مسؤول الحرس القومي فيها وكانت احتفال عادي حضره بعض المسؤولين الحكوميين والحزبيين المحليين وقاموا بعده بزيارة الحدود السورية مع منطقة اللواء الواقعه تحت النفوذ التركي، هذه هي الحدود الوحيدة التي زارها كوهين بالإضافة لعبوره حدود جديدة يابوس قادماً من لبنان في أول وصول له لسورية !!!…
المصدر الحقيقي والرئيس لأغلب المعلومات التي حصل عليها كوهين كان “جورج سيف” المذيع في البرنامج اللاتيني بإذاعة دمشق كونه كان أيضاً مغترباً عائداً من الأرجنتين ويعد برنامجاً خاصاً موجهاً للمغتربين (استقبل به كوهين مرة بمقابله مع مغترب عائد بثتها الإذاعه السورية)، وأغلب تقديراتي أن العلاقة بين كوهين وسيف كانت بتوصية من عبد اللطيف الخشن الذي لابد أنه تعرف إلى سيف خلال وجوده في الأرجنتين أيضاً.
ضمن هذه الدوائر المحدودة والمتواضعة كان نشاط إيلي كوهين في دمشق، وهي بالحقيقة كانت كافية لأداء المهمه المحددة المكلف بها والتي كانت تقوم أساساً على قراءة المزاج العام السياسي والإقتصادي في سورية، بالإضافة لرصد أية أخبار أو شائعات عن تحركات عسكرية أو تعيينات ولكن مع تعليمات صارمه من مشغليه بعدم السعي للحصول عليها للحفاظ على غطاءه وضمان عدم انكشافه.
المهمة الأخرى التي كلف بها كوهين في بداية عمله بدمشق كانت محاولة الوصول لأي معلومات حول تواجد أي من الضباط النازيين الفارين الذين وجدوا في سورية ومصر وقتها ملجأً من الملاحقات الدولية، وكان التركيز على مساعد إيخمان الضابط النازي “ألويس برونر” الذي كان يعيش في دمشق تحت اسم “جورج فيشر”، المهمة التي لم ينجح بها كوهين حينها، ولكن ففي مراحل لاحقة فعلى مايبدو أنه استطاع الوصول لبعض المعلومات عن نازي آخر يقيم بدمشق ولكنه وقتها تلقى تعليمات صارمة من مشغليه بالإبتعاد عن الموضوع بالمطلق.
إيلي كوهين لم يسعى لإنشاء شبكة تجسس في سورية وكان طابع نشاطه كما خططه له مشغلوه فردياً بحتاً، ومن هنا فكل الروايات التي جاءت في المسلسل حول اختلاطه بالعديد من الضباط والمسؤولين كانت خيالاً صرفاً خصوصاً مايتعلق منها بالحفلات الماجنة التي صورها المسلسل على أنه كان يقيمها في بيته، والحقيقه أن كوهين كان شخصاً حريصاً لدرجة البخل واختراقه كان فقط لبعض الطبقات الإجتماعيه الدمشقية وبمبادرة منها وبحسن نيه (والكثير من الإنتهازية والوصولية) فقد كانوا يدعونه بغاية التقرب منه كونه مغترب شاب ثري وأعزب، الأمر الآخر هو أن إيلي كوهين كان يهودياً متديناً ومخلصاً لزوجته ولم يضطره غطاؤه التجسسي أن يكون متهتكاً.
المعلومه المهمة وربما الوحيدة ذات قيمة فعلية والتي حصل عليها كوهين بالصدفة البحته كانت من خلال مهندس لبناني اسمه “ميشيل صعب” كان يعمل في مشروع تحويل نهر الأردن والذي كان سيحرم إسرائيل من مصدر مياهها الأهم والأكثر حيويةً، بدليل قيام اسرائيل بقصف محطات التحويل التي استطاع كوهين تحديد مواقعها من خلال “صعب”، الأمر الذي ورد في المسلسل بإسم مشروع (شلال)، وحتى هذه المعلومه الصحيحة تم تغليفها بإطار درامي خيالي لايصلح حتى لأفلام (جيمس بوند) فتم تصوير أمين الحافظ يقدم كوهين ل (محمد بن لادن) على أن شركته للمقاولات هي التي كانت تنفذ المشروع، مستندين إلى معلومة صحيحة وهي أن “محمد بن لادن” كان يتردد إلى سورية بحكم زواجه من سيدة سورية من الساحل هي “علياء الغانم”، وفي المستقبل يتزوج ابنها (أسامه بن لادن) من ابنة شقيقها (نجوى الغانم)، الأمر كله تم حشره في المسلسل بطريقه مضحكه وبائسة.
الأمر الذي يحتسب للمسلسل أنه في تصويره لانكشاف كوهين ووقوعه في قبضة المخابرات السورية كان قريباً جداً من الظروف الحقيقية التي أدت لذلك، والتي يقف وراءها إفراطه الشديد في استعمال اللاسلكي رغم تلقيه العديد من التحذيرات من مشغليه بهذا الخصوص، وحسب مقاطعتي للعديد من المعلومات من مصادر مختلفه فالقضية (وكما جاء في شهادة الأستاذ مروان حبش) تتلخص في أن موظف اللاسلكي في السفارة الهندية القريبه من شقة كوهين في أبورمانه اشتكى من وجود تشويش على إرساله المرخص من الحكومة السورية، مادفع السفارة للتقدم بشكوى للخارجية السورية التي أحالت الأمر للعقيد أحمد سويداني رئيس شعبة المخابرات الذي أحاله بدوره لرئيس فرع الإشارة الرائد محمد وداد بشير الذي أخبر سويداني أن فرعه بالفعل يرصد بث غير مرخص من المنطقة نفسها وكانت شكوكهم أنه من السفاره نفسها، وعند محاولة تحديد مكان البث بدقة وتحت ضغط الشكوى الهندية اضطروا لطلب مساعدة السوفييت الذين زودوهم براشدات متنقله ولكن حتى هذه لم تستطع تحديد مكان الإرسال بدقه، إذ تمت مداهمة مقر (المعهد العربي الفرنسي) للإشتباه بأنه جهة الإرسال، وطبعاً دون فائدة، إلا أن ضابطاً مجنداً بالفرع وهو مهندس خريج ألمانيا الغربيه حديثاً أعلم رؤساءه أن الألمان لديهم جهاز متقدم يستطيع تحديد مكان الإرسال بدقه أكبر فطلبوا منه مراسلة الشركة المصنعه للجهاز التي وافقت على بيعه للسوريين فتم إيفاد الضابط والحصول على الجهاز بموافقة الحكومتين الألمانية والسورية، وبالفعل تمكن عناصر فرع الإشارة بقيادة محمد وداد بشير ومن خلال الجهاز الجديد من تحديد البناء الذي يتم منه الإرسال، ولتلافي أي خطأ استأجروا شقة بالبناء مما أعطاهم إمكانية الوصول لقواطع كهرباء الشقق أسفل البناء، ومن خلال قطع الكهرباء عن الشقق بالتناوب ولثواني أثناء الإرسال تمكنوا من تحديد الشقة ومداهمتها بوجود العقيد أحمد سويداني والرائد محمد وداد بشير.
رغم ترديده للعديد من السرديات التي ليس لها أي سند واقعي إلا أن المسلسل لم يقع في فخ ترديد ماتعلق منها بدور مزعوم للمخابرات المصرية في وقوع كوهين، سواء منها المتعلقة بصورة له مع الجنرال علي عامر في مواقع عسكرية على خطوط الجبهة (التي لم يزرها كوهين أصلاً) أو أن العميل المصري (رفعت الجمال) شاهد صورة له في منزل قريبة لكوهين في إسرائيل، الروايتان عاريتان تماماً عن الصحة وتصلحان فقط كحلقة متممة لمسلسل “رأفت الهجان”، وقد اعترف المذيع السوري الناصري “عبد الهادي البكار” في مقال نشره في صحيفة “القدس العربي” مؤخراً أنه هو وغسان كنفاني من اختلقا هذه الرواية لإعطاء قصب السبق في الموضوع لعبد الناصر ونكايةً بحكومة صلاح البيطار، الأهم في الموضوع أن السلطات المصرية لم تدعِ هذه الرواية أو تؤكدها يوماً وبقيت في إطار السجالات الصحفية التي مع الأسف تبناها كاتب بحجم حسنين هيكل.
إحدى السقطات الفنية المهمه للمسلسل كانت في الطريقة التي قدمت بها شخصية الرئيس الأسبق أمين الحافظ والتي هي بعيدة تماماً عن كل مايتعلق بشخصية الرئيس (أبوعبده) كما عرفها السوريون وغيرهم، رغم أن الممثل الأميركي/الفلسطيني الموهوب “وليد زعيتر” الذي أدى الدور قدم أداءً ممتازاً ومتمكناً من الناحية الفنية، ولكنه بعيد جداً عن الحقيقه من الناحية التاريخية والتوثيقية.
رغم كل هذه السقطات التاريخيه/التوثيقية والفنية، إلا أنني وعكس آراء العديد من الأصدقاء الذين تابعوا المسلسل وأحترم رأيهم، خصوصاً أن منهم من هو ضليع في الدراما بحكم الدراسة والمهنه والموهبة الفَذِّه، أرى أن المسلسل تعرض لنقاط لافته جداً تستحق التوقف عندها لما لها من دلالات ساعدتني لأول مره في فهم نواحٍ لم يتطرق لها أحد قبل ذلك في قضية إيلي كوهين، وأزعم أن الممثل البريطاني “ساشا بارون كوهين” تمكن من تصويرها بحرفيةٍ عالية، سأتحدث عنها بالتفصيل في المقال القادم والأخير من هذه السلسلة:
(نتفلكس الأميركية والوعي البصري العربي).
في العدد القادم والأخير
• هل كان إيلي كوهين الجاسوس الأسطورة فعلاً؟ أم أنه كان ورطه حقيقية لمشغليه؟
• إذا لم يكن كذلك فمن الذي صنع منه أسطورة؟ ولماذا؟ وكيف؟
• هل كان بإمكان إسرائيل إنقاذ إيلي كوهين؟
• ماهي النقاط اللافته التي أثارها مسلسل نتفلكس “الجاسوس”؟ وماهي دلالاتها؟
• والعديد من القضايا الهامه الأخرى.