جيش لبنان في عين الإدارة الأميركية
الاستماع للمقال صوتياً
|
مقال الرأي – خاص وايتهاوس
بقلم العميد الركن المتقاعد يعرب صخر
لم يسبق للبنان أن مر بأزمة حادة حرجة ومستعصية كالتي يمر بها منذ بضع سنوات، ولا تزال تتصاعد منذرةً بمآلات الفشل على كافة الصعد والانهيار على كل المستويات.
الرئاسات الثلاث مقيدة ومكبلة بفعل استحكام الميليشيات العابرة للدولة ومرتهنة لها تتحكم في صنع القرار السياسي والتشريعي والتنفيذي بما يتوافق مع أجنداتها المتصلة بقوى خارجية وأبرزها ايران، وتمنع تطبيق الدستور والقوانين وحسن سير العمل كلما اختص بالسيادة والوطنية وسلامة علاقات لبنان الدولية وجواره العربي ومحيطه الحيوي، حتى بات لبنان منقطعاً عن كل صديق ومعين وشقيق. وعلى صعيد الإدارة العامة والمؤسسات وبفعل تغلغل هذه الميليشيات واستباحتها للمراكز الحساسة والفاعلة فيها وبغياب روادع القانون استشرى واستحكم فيها الفساد.
إن من شأن كل ذلك وغيره أن يودي بلبنان الى مصاف الدول المتعثرة لا بل الفاشلة، لأن من أولى مظاهر الفشل هو عجز الدولة عن القيام بوظائفها العامة لتأمين الإستقرار لمواطنيها على الصعد الاقتصادية الاجتماعية، وأن تلعب دوراً ككيان مستقل، إضافةً لفقدانها السيطرة على أراضيها ومواردها وعلى وسائل العنف الخارج عن الإطار القانوني.. حتى وقت قريب، بغياب فاعلية وهيبة الدولة، كان لا يزال هناك خمسة أقانيم تميز وجه لبنان: السياحة والخدمات، التعليم، الطبابة، النظام المصرفي، والقوى الأمنية/ الجيش بالذات. كلها تهاوت وبقي الجيش آخر قلاع الصمود رغم كل الظروف القاسية ومحاولات استهدافه وإضعافه وإفقاره وضرب معنوياته.
محنة لبنان استرعت انتباه الغيورين ليسارعوا إلى محاولات تجدته وإقلاله من عثراته. وبما أن الجيش اللبناني يمثل آخر قلاع الصمود، وخوفاً من تشرذمه وانحلاله، آن حينئذٍ أوان الصديق في وقت الضيق. ُكثر هم الذين بادروا وأعانوا وقدموا بخاصة دول الخليج العربي والأمم المتحدة وأوروبا…، لكن وللحق والإنصاف كل هؤلاء في كفة وما قدمته وتقدمه الولايات المتحدة الأميركية للجيش اللبناني والقوى الأمنية في كفة أخرى أوفى وأرجح.
أولاً؛ لماذا هذا الإهتمام الأميركي؟ لأن الإدارة الأميركية تدرك أن بقاء لبنان في بقاء قواه الأمنية عموده الفقري صامدة. ولأنها تعي الموقع الجيوسياسي لهذا البلد كنافذة هامة على كل الشرق الأوسط، ولأنه خط دفاع أمامي على البحر المتوسط ومنفذ استراتيجي يطل على أوروبا، ويتحتم منع المجموعات الإرهابية من السيطرة عليه؛ كذلك تهتم أميركا وتتمسك كهدف بالغ الأهمية في بقاء هذا البلد كنظام سياسي ديموقراطي ليبرالي حداثي حر منفتح وحيد وسط الراديكاليات المنتشرة في كل هذا الشرق. ولكل ذلك وغيره يهم أميركا دوام الحد المطلوب من الأمن والإستقرار حفاظاً على السيادة في هذا القطر، ووسيلة هذا الإستقرار لا تكون إلا بجيش وقوى أمنية حاضرة جاهزة لترعاه.
ثانياً؛ إذا استعرضنا وأحصينا كل المساعدات الأميركية منذ الثمانينات حتى الآن، نجدها فاقت عشرات المليارات الدولارية، إن كان في التسليح والعتاد والآليات والتجهيز، أو في التدريب والدورات الدراسية للضباط، أو في المعونات اللوجستية والنقدية المباشرة، وبرامج التحديث والمكننة والتأليل… على صعيد التدريب والدورات الدراسية؛ أنا العميد صخر كاتب هذه السطور، واحد من بين مئات من الضباط اللبنانيين، قد تابعت في أميركا ثلاث دورات تخصصية ودراسية وتأسيسية وفي دروس الحرب والاستراتيجيا ومكافحة الإرهاب وغيرها؛ وطوال هذه الدورات كان يتم تقديم كافة أشكال المعونة والتسهيلات والعيش الكريم؛ وكانت طواقم المعاهد حريصة بكل تفاصيل الدعم والمساندة لخلق جو من الإستقرار الفكري والحرية وجميع مستلزماتها لدفعنا نحو قمة العطاء؛ نأخذ ونعطي، نبذل معرفتنا وعلمنا ونتلقى معرفتهم وعلمهم ونتبادل الخبرات؛ ونعود إلى وطننا محملين بكنز معرفة وخبرة نغني بها جيشنا.
يسجل كمعدل سنوي عام للدعم الأميركي للجيش ما بين خمسين الى مئة مليون دولار معظمها آليات ومحروقات وسلاح وذخائر وأعتدة مراقبة حدود برية وبحرية. هذا عدا عن الدعم اللوجستي المباشر للجيش كمؤسسة معنوية عامةً والعنصر البشري ضباطاً وأفراد خاصةً، منذ ثلاث سنوات عندما استفحلت أزمة رواتب الجيش بسبب التضخم وانهيار النقد المحلي بحيث وصل راتب أرفع ضابط لما دون الثلاثمئة دولار وأدنى جندي لحدود الخمسين دولار. وهنا دأبت الولايات المتحدة على تقديم مساعدات مؤقتة أقرها الكونغرس بقيمة حوالي 75 مليون دولار قدمتها السفارة الأميركية في لبنان صيف 2022 لدعم رواتب الجيش وقوى الأمن الداخلي بحيث ُتعطى مئة دولار لكل العناصر شهرياً لمدة سنة. تلا ذلك في 9 ايلول توقيع الرئيس الأميركي على مذكرة رئاسية تمنح مساعدات فورية بقيمة 47 مليون دولار. وهناك برامج مساعدات وجداول دعم مهمة وواعدة جاهزة لتأخذ طريقها السريع للبنان وجيشه وقواه الأمنية، بمجرد انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة لانتشال لبنان من أشداق الشر وأخذه نحو الخير والتعافي السريع.