الطائفية السياسية كجاهلية متجدّدة
الاستماع للمقال صوتياً
|
بيروت – خاص وايتهاوس
مقال الرأي بقلم العميد الركن المتقاعد يعرب صخر
يكاد لا يخلو أي بلدٍ من تعددية سكانه، إن كان في الدين أو العِرق أو اللون، وتتمازج فيه إتنياتٌ وقومياتٌ وطوائف ومذاهب.
في غالبية البلدان المركبة، نُسجت أنظمة سياسية تُراعي تنوعها وتحفظ طبائعها، وتأخذ منها إيجابيات تراثها وتقاليده النافعة، وأعرافها المؤسسة للممارسة المنتظمة وقواعد السلوك العام، لكن؛ تحت سقف قدسية النظام وثوابته وضوابطه وسموّ دستوره وقوانينه فوق كل إعتبار. ومن الأمثلة على ذلك: سويسرا، الولايات المتحدة الأميركية، بلجيكا… وغيرها.
إن الاستقرار هو أول الأهداف في أي نظامٍ سياسي، لأن به وعبره يتم تحقيق كل الأهداف الأخرى، من السيادة والهوية والقوة والمكانة، إلى الحقوق الاقتصادية الاجتماعية، ثم الرفاه والتطور والنمو، وصولا إلى نعيم العدل والمساواة والحريات العامة. كل هذه الغايات تتهددها الطائفية إذا سُمح لها أن تطغى على النظام السياسي العام، ولم يُقضَ على بواعثها وأسبابها.
قُذّرَ للبنان أن ينشأ تحت الاحتلالات، التي حركت فيه الطائفية و أيقظتها بطبائع العداوة والتباعد. وتقلّب لبنان من عصرٍ إلى عصر، ومعه الطائفية تعتصره. وكلما حِيك له نظامٌ سياسي، تراه بُني على الصيغة الطائفية حتى استشرت فيه وأخذت أبناءه يتنازعون ويحتربون بسببها، وأبعدتهم عن المواطنة والعيش المشترك، وابتكرت لهم تكاذب التعايش مع التربّص والترصّد بعضهم لبعض.
نشأت في لبنان هوية ثقافية تقوم على الدين، وعلى خصوصية الطائفة، وعلى تمجيد ماضيها وثقافتها، وصولا إلى الاختلاف على الحاضر والمستقبل. وطالما أن الدولة اللبنانية قد أوكلت، بموجب الدستور، الطوائف الدينية شؤون التربية والتعليم وأحوالها الشخصية من ناحية، وأهملت شأن التعليم الرسمي والتربية المواطنية من ناحية أخرى، ولم تتعامل مع الفرد اللبناني على أنه مواطن في دولة، بل تابع إلى طائفة، فقد نتج عن ذلك ثقافة طائفية وتعايش على أساس الاختلاف وعدم الاعتراف بالآخر، وصولاً إلى محاربته واستئصاله.
ارتقينا من العثماني إلى الفرنسي، ومن الطوائفية الدينية إلى السياسية فالمسلّحة فالمتطرفة، وانتقلنا من الانتداب الأجنبي لنقع تحت انتداب الطائفة. لم تجلب لنا هذه الأخيرة سوى تراث “الدبكة” وعز”التبولة” ولذة “الكبّة”.
أبرقص الدبكة فقط نزهو ويرانا العالم؟ وبالتبولة والكبة وحسب، نشبع وطنية وفخاراً واستقرارا؟
ومن هنا؛ كيف استأصل فاسدا” وكيف أحاكم مجرما” إذا هرب إلى طائفته وعشيرته التي تؤويه وتمجده، لا بل وتقدسه، وتحول موبقاته إلى بطولات؟ وكيف نجري إصلاحا” اداريا” ونرسي سياسة” عامة له تتخطى نسيج الطوائف والمذاهب وتوزيعات حصصها؟
لو أن كل طائفة ومذهب تقدم أكفأ عناصرها وخيرة أفرادها لتشكيل الإدارة العامة والهيكلية السياسية والبنية الإقتصادية والاجتماعية، لكان بالإمكان عمل شيء يبنى عليه. ولكنها لا تقدم ولا تبويء إلا أراذلها كي تتحكم بقيادهم وتبقى هي منقادة كفرع لأصل لا يمت بقرابة إلى الوطنية والسيادة والهوية والانتماء.
بات من المستحيل عزل الطائفية عن الممارسة العامة، للأسف الشديد، لأنها تغلغلت في النفوس والأركان، بكل المقاييس وعلى جميع المستويات، لتتشعب إلى مذهبيات بغيضة وأجنحة مسلحة وأحياء كانتونية، وقوى عابرة للدولة، وبالتالي؛ جاهلية متجددة وفساد مستمكن يتفاخر به المذهب وتحميه الطائفة، التي تقلد عليه أهل الاختصاص في الفساد والإفساد والاتجار بالفتن. وهذه الطائفة ومن نسلها تلك المذاهب، تشذ عن هم الوطن وتكسر حدوده لتتصل خارجه بأعدائه وهدّاميه.
والسلام عليك يا وطني.