نحو إقليمية جديدة بقيادة سعوديّة
الاستماع للمقال صوتياً
|
مكّة – خاص وايتهاوس إن أرابيك
مقال الرأي بقلم د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب
لم تعد مُقنعاً للسعودية تقسيم المنطقة إلى محاور بما كان يدعى محور الاعتدال ومحور المقاومة والممانعة ومحور الخلافة، وهي محاور بالضرورة صرفت عقودا من الزمن في مواجهة بعضها البعض، لكن النهج السعودي الجديد يود أن يتجاوز هذا التصنيف إلى الشروع بتسويات ومصالحات يكون الجميع فيها رابح.
ترى السعودية أنها هي ودول المنطقة جزء لا يتجزأ مع الكتلة الآسيوية بل منطقة تصل بين الكتلة الآسيوية والكتلة الأوروبية والأفريقية، ومن يقرأ المشهد الاقتصادي الراهن في آسيا بشكل خاص يمر بمرحلة تحول تاريخية مثيرة للإعجاب فبحلول عام 2050 سيرتفع الناتج الآسيوي من 30 تريليون دولار في 2021 إلى 174 تريليون دولار بنسبة 52 في المائة بعدما تضاعف حجم التجارة أربع مرات خلال عقدين.
أدركت السعودية أن فواتير الصراعات والخلافات أصبحت لا تفرق بين دول الجوار القريب والبعيد خصوصا وأن فواتير تلك الصراعات ارتفعت بعد جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية نتج عنها تبدل في موازين القوى. ما يعني أن السعودية أدركت أن العالم يعيد ترتيب حساباته، فيما الشرق الأوسط خلال العقود الماضية لم يكن على وفاق، بل كان رهن الضغوط والتأثيرات الخارجية، فالمنطقة أمام عالم جديد وشرق أوسط مختلف يفرض أدواته نحو إقليمية جديدة وعالم متغير.
لم تهتم السعودية كثيرا بمطالب روسيا بعالم متعدد الأقطاب، وأمريكا تتمسك بالقرن الأمريكي الذي بدأ مع انهيار الاتحاد السوفياتي في 25 ديسمبر 1991، لكنها تتجه نحو دفن خلافات الشرق الأوسط الممتدة عبر أزمنة طويلة، فهي تقود إقليمية جديدة تقوم على فتح المنطقة أمام التواصل بين الشرق والغرب.
بدأت السعودية في تشكيل الإقليمية الجديدة منذ 4 يناير 2021 في مصالحة العلا الشهيرة الذي وصلت محطاته إلى تركيا، وتم تدشين محادثات أولية بين الزعيم الصيني والأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي في قمة ثنائية جرت بينهما في الرياض في ديسمبر 2021 حيث أعرب الرئيس الصيني خلال اللقاء أن تكون الصين جسرا بين السعودية وإيران، عندها رحب سمو ولي العهد بذلك، مضيفا ان السعودية ترى أن بكين في وضع فريد حاليا لتوسيع نفوذها في الخليج.
تم توقيع في مارس 2023 الاتفاق بين الجانبين برعاية بكين انعكس على جميع ملفات المنطقة من الملف اليمني إلى السوري وسيمتد إلى بقية الملفات العالقة في المنطقة بهدف رسم ملامح جديدة لشكل العلاقات وتوازن المصالح بين دول المنطقة، وبمفهوم جديد للإقليمية الجديدة والتعاون التي تطرح نموذج جديد لا ليحل محل الدولة الوطنية، ولكنه نموذج جديد للتعاون بين الإقليم يقوم على التعاون والتكامل، بترسيخ مفهوم جديد الإقليمية والتعاون الإقليمي بجانب التعاون الدولي العابر للحدود الذي ترعاه منظمة التجارة العالمية والتي تشكل مع مرحلة القطب الأوحد في التسعينات من القرن المنصرم الذي لا غنى عنه، ولكن وفق بروز الإقليمية الجديدة التي تتجه نحو صياغة أقطاب عالمية جديدة.
نحن أمام مفهوم جديد للشراكة نجد اليوم تود أمريكا وأوروبا أن تتوصل إلى اكتفاء ذاتي من صناعة الرقائق الالكترونية بعد تأثر سلاسل الإمداد نتيجة الجائحة وحرب روسيا في أوكرانيا والتي لا تزال مستمرة تسببت في ارتفاع نسب التضخم.
لذلك هناك تحركات كبرى لتعزيز التجارة بين الدول العربية ودول الجوار الشرق أوسطي كما في رؤية السعودية شرق أوسط أوروبي جديد التي تقوم على الاستفادة الكاملة من الموارد والقدرات التي تربطها جغرافية واحدة وفي نفس الوقت هي منطقة عبور لقارات بين قارات العالم، فلابد أن تعبر الضغوط والتداعيات السلبية للاندماج في العالم.
لم يكن مصطلح العولمة مطروحا قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، والبعض يميز بين العولمة والعالمية خصوصا إذا كان الأمر يتعلق بالمنظمات الدولية والإقليمية، حيث شهد العالم تبلور مجتمع مدني عالمي من خارج الأطر الحكومية أو الرسمية، وصعود الإقليمية كان محدودا، فالأولى دمرت المنطقة العربية عبر ما يسمى بثورات الربيع العربي، لكن الدول العربية بدأت تركز الآن على صعود الإقليمية.
منذ القرن التاسع عشر والمجهودات الدولية مستمرة لتنظيم العلاقات الدولية، فمن مؤتمر فيينا سنة 1815 الذي أرسى قواعد العلاقات الأوربية في إطار توازن القوى بعد حروب نابليون، إلى مؤتمر باريس سنة 1856 ثم مؤتمر برلين 1868 و 1872 لرعاية المصالح الأوربية على المستويين القاري والعالمي، في مطلع القرن العشرين دعا قيصر روسيا نيقولا الثاني إلى عقد مؤتمرات دولية لمناقشة مشكلات العالم، فانعقدت مؤتمرات لاهاي في عامي 1899 و 1907 بمشاركة دول أوروبية وغير أوروبية لدراسة سبل تجنب وقوع الحرب، وطرق تسوية النزاعات الدولية بالوسائل السلمية، وإنشاء محكمة دولية، وإنشاء عصبة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الأولى عام 1919 منفتحة العضوية اكتسبت صفة العالمية، انخفض عدد الدول المنضوية في عام 1937 من 58 دولة إلى عشر دول في 1943 نتيجة الحرب العالمية الثانية، لأنها لم تتمكن من تحقيق أهدافها في تطبيق مبدأ الأمن الجماعي، لكن ارتفع العدد من 51 دولة عام 1945 إلى 189 دولة في نهاية القرن العشرين، مع إنشاء منظمات دولية متخصصة.
أضعفت العولمة صعود القوى الإقليمية، لكن اليوم بدأ صعودها من جديد في أعقاب تغيرات دولية عميقة، خصوصا بعدما برزت منظمة أوبك بلس واستقلال قرارها. فجاء تخفيض أوبك بلس لإنتاجها بمعدل مليوني برميل في أكتوبر 2023، ثم تخفيض أكثر من مليون برميل بشكل طوعي في أبريل 2023.
ولأول مرة يرتفع الناتج المحلي لمجموعة بريكس بنحو 31.5 في المائة من الناتج العالمي، فيما ينخفض ناتج دول مجموعة السبع إلى 30،7 في المائة، رغم أن مجموعة السبع سيطرت على 317 تريليون دولار من ثروة العالم في عام 2018 بنسبة 32- 42 في المائة.
مجموعة بريكس التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا (ضمت روسيا في عام 1998 لكن تم إخراجها عام 2014 بعدما احتلت شبه جزيرةيم القرم)، تمثل ثقلا اقتصاديا يكاد يفوق في أهميته مثيله للدول السبع الصناعية الكبرى التي تضم أمريكا وألمانيا وكندا وفرنسا وإيطاليا واليابان وبريطانيا. وهناك أكثر من 12 دولة من بينها السعودية وإندونيسيا والأرجنتين وتركيا وإيران والجزائر أعربت عن رغبتها في الانضمام إلى هذا التكتل، 4 منها تقدمت رسميا بطلبات انضمام إلى تكتل بريكس وهي الأرجنتين والسعودية والجزائر وإيران.
لكن بالرغم الأهمية الاقتصادية لدول البريكس وتضم 3.2 مليار نسمة إلا أنها لا تحظى حاليا سوى بـ 15 من حقوق التصويت في البنك وصندوق النقد الدولي، لذلك أنشأت الصين بنك للتنمية في شنغهاي. واليوم يطالب الرئيس البرازيلي لولا داسلفيا التبادل بالعملات المحلية بين دول البريكس، وجرى الاتفاق بين البرازيل والصين التبادل بقيمة 150 مليار دولار، لكن الأمر يبقى محدودا إذا لم يتم تشكيل عملة موحدة لمجموعة بريكس بغطاء ذهبي كما كان الدولار في عهد نيكسون بغطاء ذهبي حيث كل 35 دولار يساوي أونصة من الذهب قبل أن يتم التحول إلى الربط بالبترول “البترودولار”. وبما أن روسيا والسعودية وإيران دول منتجة للنفط، فستكون مستقبلا العملة الموحدة لمجموعة بريكس مغطاة بالذهب والبترول، وقادرة على منافسة بقية العملات وعلى رأسها الدولار.