الصين كما يفهمها كيسنجر
الاستماع للمقال صوتياً
|
كتبت مرح البقاعي
إنه واحد من أبرز الشخصيات الأميركية التي أسهمت في صياغات جديدة للسياسة الخارجية وهو على رأس دبلوماسيتها وزيراً لخارجيتها؛ ولم يكن ألقه السياسي بأقل بريقاً حين تسلّم منصب مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون.
من نجاحاته السياسية الكبرى حين كان وزيراً للخارجية الأميركية توصّله إلى وقف إطلاق النار في شمال فيتنام في عام 1973، ما مهد لخروج الولايات المتحدة من هناك في عام 1975، بينما استحق جائزة نوبل للسلام على هذا الإنجاز التاريخي، وقُلد الجائزة في عام 1973.
وفي عمر السادسة والتسعين مازال قوياً ولماحاً يتجوّل بين القارات ويلقي المحاضرات والخطب اللامعة في المناسبات الحكومية والعامة، ومازالت رؤاه السياسية ترسم خطوطاً عريضة للسياسات الدولية الكبرى وللدبلوماسية الأميركية في آن، حتى لُقّب بـ “ثعلب السياسة الأميركية”.
إنه هنري كيسنجر.. العارف بعمق خفايا السياسة الأميركية ودهاليز الدولة العميقة التي ترسم السياسات المصيرية لأميركا والعالم.
يعير كيسنجر اليوم اهتماماً كبيراً للعلاقات الأميركية مع المنافس بل والخصم الأكبر لأميركا: الصين؛ وهو يقرأ تلك العلاقة الموتورة بحنكة سياسية قد لا يتفوق عليه فيها أحد. فهو على العكس من كبار صانعي القرار في البيت الأبيض، يشدد على أهمية الحوار بين بكين وواشنطن، وعلى ضرورة إقامة جسور التواصل التي وحدها القادرة على بناء علاقات ثنائية إيجابية ومتوازنة بين البلدين، وكذا ابتكار السبل لتوطيد هذه العلاقة، وتمكين ودعم العقول المنفتحة والفكر التاريخي الفلسفي في خوض غمار المحادثات في جملة المشتركات التي يمكنها أن تعزز العلاقات بين البلدين في ظل النظام العالمي الجديد الذي اعترضت طريقه بقوة حرب روسيا على أوكرانيا.
يعتقد كيسنجر أن إقامة نظام عالمي جديد إنما هو في مرحلة التأسيس على نار حامية حالياً؛ وقد أصبح النظام الجديد ضرورة ملحّة يفرضها الواقع الدولي المستجد في ظل تعاظم عدد الدول المستقلة وذات السيادة في الكرة الأرضية من ناحية، ومن ناحية أخرى لدواعي انتشار الفكر الديمقراطي ومبادئ المشاركة السياسية وتداول السلطة سلمياً في العالم، بحيث غدا بناء ذاك النظام الجديد القائم على تلك المبادئ الإنسانية الرفيعة طموح أغلب الدول المستقلة ذات السيادة.
ويرى كيسنجر أن بناء النظام العالمي الجديد لا بد أن يتم بالمشاركة بين دول العالم أجمع؛ مع أخذ العلم والانتباه إلى التغيرات في هذا العالم وبين دوله وشعوبه مردّها قراءة التاريخ برؤى متباينة، والصراعات التي تشهدها غير دولة من العالم التي من المفترض أن تكون شريكة أيضاً في بناء هذا النظام رغم تعقيد ظروفها الأمنية والسياسية، وكذا الانتشار الهائل وغير المنضبط في بعض الأحيان لوسائل التواصل والمنصات الاجتماعية والتكنولوجية بكل حسناتها وعيوبها، وأخيراً ظهور حركات التطرف الأيديولوجي والعقائدي التي تتخذ في حالاتها الشاذة من الدين ستاراً لأعمالها العنفية التي أصابت العالم بأسره بالرعب والصدمة والرهاب من مستقبل العالم في ظل موجة الإرهاب الظلامي.
يمرّ النظام العالمي الحالي بأزمة حقيقة انعكست في مشهد من الحروب المتنقلة والاضطرابات والعنف الأهلي والسياسي الذي يضرم في غير بلد من العالم كما يرى كيسنجر؛ وهو يستشهد بالأحداث الكبرى التي تمر بها غير دولة في العالم، والتي تثير القلق والخوف على مستقبل البشرية بأسرها. ففي سوريا والعراق نشأت وتنظمت مجموعات إرهابية مسلحة تموّل نفسها من خلال الإرهاب وبسط السيطرة بالسكين والرصاص، وتهدف إلى إقامة دولة الخلافة على الأرض بفكرها العنفي الذي يقوم على قطع الرؤوس واستباحة الدماء وترهيب البشر. وليس تنظيم داعش إلا الصورة الأكثر تطرفاً وعنفاً من نسخها المتعددة العابرة للحدود كالقاعدة وباكو حرام وغيرها.
وهناك من طرف آخر التوتر الشديد الذي يسيطر على علاقات دولتين عظيمتين أولهما تنتمي إلى المعسكر الشرقي وهي روسيا والثانية إلى الغربي منه وهي الولايات المتحدة الأميركية، هذا ناهيك عن الاضرابات الشديدة التي تسبببها مواقفهما المتناقضة من الحروب والمواقع الساخنة في العالم في سوريا وأوكرانيا على سبيل المثال لا الحصر، حيث تفترق المصالح وتعلو نبرة النفوذ لكل منهما. أما ميزان العلاقات بين الولايات المتحدة والصين فيرى كيسنجر أنه أكثر اعتدالاً وغالباً ما يتأرجح بين محاولة التعاون وتطبيع العلاقة حيناً، والتصادم والتوتير وتبادل الاتهامات أحياناً.
ماهية ومحددات النظم الراسمة للنظام العالمي الجديد يراها كيسنجر كامنة في المفاهيم السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي قامت عليها المجتمعات الغربية؛ وهو يجد في الولايات المتحدة قيادة عالمية اضطلعت بسدة السياسة العالمية في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية مباشرة، بانيةً أسس قيادتها على مبادئ الحرية والديمقراطية التي هي قاعدة منظومتها السياسية على أرضها.
يثني كيسنجر على سياسة الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، التي كانت انتهجها خصوصاً في فترة ولايته الثانية، والتي هدفت إلى تشكيل هيئة عالمية تشاركية تقوم على مفاهيم الأمن وتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي بصورة معاصرة تتماشى مع المشهد الحداثي الفكري والتكنولوجي للقرن الحادي والعشرين.
ويؤطر لنا هنري كيسنجر رؤيته في صورة نظام عالمي جديد لا يقوم على القطب والواحد؛ ويرى النظام العالمي الجديد، ومن هذا المنطلق الموضوعي لظروف عالم القرن الواحد والعشرين، نظاماً يقوم على التشاركية بين الولايات المتحدة والصين، مستبعداً روسيا بشكل نهائي من معادلة قيادة العالم الجديد.