الاستماع للمقال صوتياً
|
إنه الانقلاب العسكري السادس منذ استقلال السودان في العام 1956، وقد حدث مدفوعاً بانتفاضة شعبية عارمة اندلعت في 15 ديسمبر 2018 أطاحت بحكم الرجل الواحد للرئيس المخلوع عمر البشير، وقد استحوذ هو أيضاً على الحكم بقوة السلاح، واستمر على رأسه 30 عاماً.
الانقلاب العسكري الذي قاده الفريق الأول عبد الفتاح البرهان حمل شعارات ووعوداً براقة للشارع المنتفض، تجّلت بإعلان المجلس العسكري الذي رأسَه عن نيته اقتسام السلطة مع الجناح المدني للثورة التي قادها الشارع السوداني بامتياز، وكذا بالتشديد على احترام المجلس لتطلعات النقابات المهنية ولجان المقاومة الشعبية التي قادت الحراك السلمي المدني، ومازالت تواصل رفضها المطلق لأي شكل من أشكال استفراد العسكر بحكم السودان.
إلا أن تجربة البرهان في إحكام قبضته على السلطة من خلال المجلس العسكري بداية، ثم المجلس السيادي المشترك مع الجناح المدني، تبدو وكأنها لم تقرأ جيداً دروس التاريخ السوداني غير البعيد.
ويفيد التاريخ أن “السلف” الانقلابي، المشير عبد الرحمن سوار الذهب، الذي شغل رئاسة المجلس العسكري الانتقالي إثر انقلاب العام 1985، كان صاحب طموح أكثر تواضعاً مقارنة بنظيره البرهان، فقد قام بتسليم السلطة بعد سنة واحدة من وصوله للرئاسة ثم اعتزل الحياة السياسية تماماً بعد أن وصلت البلاد إلى عملية انتخابية مقبولة في حينها وظرفها.
أما “الخلف” البرهان فسرعان ما انقلب على الحكومة المدنية التي استدعى لرئاستها خبيراً دولياً في إصلاح القطاع العام والحوكمة وإدارة الأنظمة الديمقراطية، المخضرم عبد الله حمدوك، ثم اعتقله دونما سابق إنذار وعلّق أعمال حكومته. إلا أن البرهان اضطر تحت ضغط شعبي داخلي عارم، وآخر دولي قادته الولايات المتحدة الأميركية، للإفراج عنه والتفاوض معه من جديد وإعادته إلى رأس الحكومة.
ومع عودة حمدوك لإدارة شؤون الدولة، بدأت الشكوك تنتاب الشارع من هذه الخلطة العسكرية – المدنية التي بدا مشهدها سافراً ينمّ عن رغبة واضحة من طرف العسكر للانفراد بالحكم، وأن عودة حمدوك لم تكن إلا شرعنة لتلك الرغبة. هذا ناهيك عن فشل المجلس السيادي على امتداد عامين في تحقيق الحد الأدنى من أهداف الثورة السياسية، أو في تحسين المستوى المعاشي العام الذي لم يشهد أية انفراجات تُذكر تطال دخل الفرد وشروط أمنه واستقراره.
وفي الذكرى السنوية الثانية للثورة، ومع وقوع أربعة شهداء من المتظاهرين السلميين أمام ساحة القصر الجمهوري في 30 ديسمبر برصاص حي أطلقته قوات الأمن، لم يعد هناك أدنى شك من أن المجلس العسكري ينحرف بالبلاد إلى أتون مواجهات قد تتحول في غفلة إلى حرب أهلية لا تبقي ولا تُذر. وأن رغبته في السيطرة على مقاليد الحكم والانفراد به والعودة بالسودان إلى خيمة العسكرتاريا أصبح أمراً جلياً لا يغيب عن أحد.
في واشنطن، ومباشرة إثر سقوط الضحية الأولى في مظاهرات ديسمبر السلمية الأخيرة، سارع وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إلى الإعلان على حسابه تويتر عن “امتعاضه الشديد من التقارير التي تفيد بأن قوات الأمن السودانية استخدمت القوة المفرطة ضد المتظاهرين، وحجبت الإنترنت، وحاولت تعليق وسائل الإعلام. وأبدى دعمه وحكومة الولايات المتحدة الكامل للشعب السوداني وهو يطالب بالحرية والسلام والعدالة”.
الأزمة في السودان تعدّت أن تكون أزمة أداء حكومي أو اختلاف حول كيفية تمثيل قوى الثورة في إدارات الدولة، بل هي أزمة داخل صفوف العسكر أنفسهم. فمحاولاتهم المتكررة لاحتكار السلطة وصناعة القرار، والقضاء في أمر البلاد بالوكالة عن حكومة مدنية، هو ما يضع البرهان وطاقمه العسكري في قلب العاصفة. بينما يُفترض أن تقتصر مهمة البرهان وفريقه العسكري على توجيه الدفّة إلى ضفة السلامة دونما عوائق، وأن يبقى دورهم أمنياً بامتياز يتحدّد في الحفاظ على المكتسبات الشعبية للثورة وتيسير عمل الحكومة من خلال تأمين الاستقرار والأمن العام.
وقد ينتهي الانقلابيون إذا استمروا في تغوّلهم على المدنيين، سواء في الشارع أو في المواقع الحكومية، إلى مواجهة حتمية مع تحرك داخلي بين صفوفهم. لكن التحرك لن يلجأ إلى عزل حمدوك هذه المرة، بل ستكون وجهته رفاق السلاح عينهم، وعلى رأسهم الرجل الأول البرهان، إلى جانب الرجل الثاني المقرّب، حمدان دقلو الملقب حميدتي، وهو تاجر الإبل أصلاً ثم قائداً (بالمصادفة التاريخية) لقوات التدخل السريع التي تشكلت على هيئة “بروكسي” لمليشيات الجنجويد المتهمة بارتكاب جرائم حرب بإقليم دارفور في العام 2003.
الخيار الثاني أمام البرهان هو الإعلان عن انتخابات مبكرة يبقى العسكريون خارجها تماماً ويساهمون بحماية مجرياتها لتمكين المواطنين من الوصول إلى صناديق الاقتراع بسلام للإدلاء بصوتهم بحرية، واختيار من يرتضونه من الكفاءات الوطنية التي لا أطماع لها في السلطة، بل ستكون في مهمة الخدمة العامة للبلد كما ينبغي أن تكون مؤسسات الدولة المدنية الخارجة من عقود من سطوة العسكر.
لا خيار ثالث أمام البرهان وحميدتي ومن يناصرهما في صفوف قوات الأمن التي بدأت تلجأ للقوة المفرطة لإسكات صوت الشارع المنتفض من جديد.
وإنه الخط الأحمر لقوى الثورة أولاً، وكذا الدول التي دعمت التغيير في السودان ثانياً، من أجل الشروع الفوري بانتقال سياسي سلس إلى الدولة المدنية المنشودة، وإلا ستعود السودان إلى قائمة الدول الراعية للإرهاب، وسيتعطّل وصول المعونات الدولية التي يحتاجها على عجل الاقتصاد السوداني المترنّح والآيل للسقوط.