الاستماع للمقال صوتياً
|
كان من الممكن لوالدتي، مها الصلح، أن تصبح زعيمة عربية عظيمة لو أرادت ذلك. أي شخص عرفها لا بدّ يتّفق معي في هذا الرأي.
في الخمسينيات من القرن الماضي، أسّست والدتي نادي بيروت العربي بلبنان. والدها، عادل الصلح، كان رئيس بلدية بيروت؛ وعمها، تقي الدين الصلح، كان رئيس وزراء لبنان؛ وابن عمه، رياض الصلح، كان مع بشارة الخوري الأب المؤسس لدولة لبنان- لبنان رياض الصلح.
كل من عرف والدتي يجزم أنها كانت مهيأة لدور قيادي. تخرّجت في العام 1950 بدرجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من كلية بيروت الجامعية، وكانت رائدة على مستوى الفصل الدراسي والشأن العام أيضاً.
سألتها يوماً، لماذا لم يُنجب العالم العربي قائدة نسائية بارزة؟ كان ردها “إن الرجال في العالم العربي لن يوافقوا أبداً على اتباع امرأة والسير على هداها”. وعَوداً على ما قالته، بادرني فوراً تأسيسها للنادي العربي وما قوبل به من رفض من أقرب الناس لها وكان أخوها، منح الصلح، الذي يُفترض أنه تقدمي.
“أختي تجتمع مع الرجال!” أخبر والدهما، الوالد الذي قرر أن يحضر الاجتماع التالي للنادي، ونصح ابنه إثرها بأن عليه عدم المشاركة في الندوات القادمة مادام يحمل تلك الأفكار.
الشوفينية (حتى بين العرب التقدميين) كانت ولم تزل هي السائدة.
في الحقيقة، وجدت إجابة أمي عن سؤالي نصف صحيحة، لأنها افترضت أن النساء بحاجة إلى موافقة الذكور حتى يتبوؤا مناصب قيادية. لكن هذا الأمر ليس مؤكداً لا في فترة الخمسينات أو حتى في وقتنا الراهن. ففي حين يحاول الرجال باستمرار تهميش النساء واستبعادهن في السياسة، إلا أنهم لم يتمكنوا من تحقيق نجاح يذكر في مواقع أخرى أبدعت فيها المرأة. لذلك، المسؤولية تقع على عاتق الجهتين معاً، المرأة والرجل. ففي حين كان الرجال يدفعون بالنساء إلى الهامش، لم نجد النساء يقاومن بما يكفي لحماية حقوقهن.
أعتقد أنه على الرغم من أن الشوفينية الذكورية العربية هي جزء من المشكلة، إلا أنها ليست كل المشكلة. الوجه الآخر للمشكلة يكمن بالضرورة في موافقة المرأة العربية على الإذعان صاغرة والقبول بالوضع الراهن.
والدتي تخلّت عن دورها القيادي في النادي العربي، تزوجت من والدي السوري، وانتقلت معه إلى دمشق، حيث أنجبتني أنا وأخي، وأخيراً تخصّصت أمي في رعاية أسرتها، وهجرت نهائياً عالم السياسة.
من المتداول أن سوريا أعطت المرأة حق التصويت في وقت سابق عما هو الحال في الولايات المتحدة الأميركية، وأن الحكومة السورية كان عندها وزيرة قبل أن تضم الحكومة الأميركية امرأة واحدة. إذا كان هذا صحيحاً، فكيف لم يسمع أحد عن امرأة سورية قائدة منذ ذلك الحين؟ نعم، الرجال العرب أكثر شوفينية من معظم الرجال، لكن النساء العربيات كن جزءاً من “المؤامرة” عليهن بطريقة أو بأخرى؛ ومن خلال إعطاء الأولوية للزواج والعائلة، والتقاعس عن مقاومة الحال الراهن، كن قد قبلن لأنفسهم عن طيب خاطر أدواراً ثانوية، وهي أدوار حرمتهن من القيادة وأدوار البطولة.
هل تصدّقوا أن مائة مليون شخص، على مدى مائة عام، أنتجوا بطلة قومية واحدة هي جميلة بوحيرد! إحصائياً، هذا الأمر لا يمكن أن يكون غير شذوذ عن القاعدة، وهي حالة يمكن أن تفسر لماذا يدور العالم العربي باستمرار ضمن دوائر لا تنتهي، إنه أشبه بقارب بمجداف وحيد، لا يستطيع أبداً أن يطفو بأمان أويتقدم إلى الأمام.
عندما نهمّش نصف المجتمع، لا يمكنك أن نتوقع أي شيء سوى المزيد من الضعف على مدار قرن من الزمن. وبقدر ما كان رجالنا مذنبين، فإن نساءنا (من خلال تغافلهن) كن مذنبات بالقدر نفسه.
إلا أن المرء لا يمكنه إلا أن يشير إلى نساء سوريات ولبنانيات رائعات كن قياديات لمنظمات خيرية عظيمة ورائدات في بعض المواقع الحكومية والاجتماعية، لكن هذا ليس موضوع هذا المقال. القضية تنحصر بالأسئلة التالية: لماذا لم يصل أي منهن إلى مواقع قيادية في السياسية؟ لماذا لم يتم تسليط الضوء على قصص نجاحهن؟ والأهم من ذلك، لماذا لم تعطى جهودهن سبباً كافياً للإنجاز السياسي على المسرح العالمي؟ أين هي أنديرا غاندي، و بنظير بوتو، ومارجريت تاتشر، وأنجيلا ميركل وإلهام أحمد؟
لتوضيح وجهة نظري، أود أن أقدم لكم لينا مراد. الدكتورة مراد طبيبة سورية أمضت السنوات العشر الأخيرة من حياتها في تعليم وتدريب كادر طبي متكامل يغمل في شمال غرب سوريا. مراد تطوعت بوقتها ومالها وجهودها لخدمة المنطقة، وتخرّج من فصولها مئات المهنيين والمساعدين الصحيين، وهم اليوم خبراء مدرّبون يعوضون حاجات هائلة في هذا القطاع غير الخاضع لسيطرة النظام في سوريا.
والدكتورة مراد مثل أمي من قبلها، لديها الكثير من القدرة على التغاضي عن الشوفينية الفطرية لدينا! زارت مؤخراً شمال شرق سوريا، واتضح لها التفاوت في التعامل مع الجنسين بين الشرق والغرب السوري. في اجتماعها الأخير قبل عودتها إلى واشنطن، جمعت طالبها الطبيب مع ممثل عن شركة لقاح لفيروس كوفيد -19، وعندما أثيرت مسالة المكان المناسب لإعطاء اللقاحات اقترح طالبها المساجد. عندها سألت مراد: “ولكن أين سيتم تطعيم النساء بعد ذلك؟” كان تعليقه: “هن تحصيل حاصل” (يأتي دورهن عندما يأتي).
في مجتمعاتنا الكثير من النساء مثل لينا مراد ومها الصلح ممن اخترن الصمت في مواجهة التمييز ضد المرأة، إلا أن الوقت حان ليرتفع صوت المرأة ولتأخذ زمام الأمور. فالمساواة بين الجنسين ليست شعاراً وحسب، إنها ضرورة مطلقة لهذا العصر. لقد حان الوقت لأن تختار النساء العربيات من بينهن قائدات؛ لقد حان الوقت أن نتوقّف نحن الرجال العرب عن وضع العوائق، ونفسح الطريق لنسائنا لممارسة دورهن الطبيعي كنصف المجتمع في السياسة والأعمال والقيادة.
المجتمع الذي لا تقوده طاقاته التي يتمتع بها الذكور والإناث معاً لا يمكن أن يزدهر البتة. وإذا نظرنا حولنا نجد لبنان على عتبة الإفلاس، وسوريا في طريقها للإنهيار، والعالم العربي يقترب من الفوضى؛ أما الحل هذه المرة فسيأتي من نسائنا، وستقودنا النساء، وليس الرجال، إلى رحاب القرن الحادي والعشرين.