الاستماع للمقال صوتياً
|
قبل عشر سنوات ونيف، نهض الشعب السوري سلمياً للمطالبة بالإصلاح السياسي والعدالة الاجتماعية، فكانت النتيجة هذا الدمار الكبير الذي نشهده اليوم على البشر والحجر.
في ذلك الأثناء مر على الحكم هنا في واشنطن عهدين، وتولي رئيسين زمام الأمور في البيت الأبيض، وهما الديمقراطي باراك أوباما والجمهوري دونالد ترامب، ولم تفلح السياسات الخارجية الأميركية رغم تنوع مقارباتها المتناقضة من الملف السوري. فشل الجميع بإحراز أي تقدم أو فتح أية نافذة نجاة للشعب السوري.
ومن المرجح أن الولايات المتحدة لم تكن ترى أية نتيجة مرجوة من تدخل مباشر في الشأن السوري كما فعلت موسكو على سبيل المثال، قياساً بالتدخلات الأجنبية العديدة على الأرض السورية سواء جاءت على شكل ميليشيات عابرة للحدود كالميليشيات الإيرانية او على شكل جيوش نظامية لدول الجوار كالتدخل التركي.
مع وصول الرئيس بايدن إلى البيت الأبيض – وهو من عمل نائباً للرئيس الأسبق أوباما لمدة ثماني سنوات وأشرف على الصفقة التي جرت ببين موسكو وواشنطن لتجنيب النظام السوري ضربة عسكرية مقابل تسليمه لترسانة سلاحه الكيميائي – يُخشى أن تسير الأمور في الاتجاه القديم عينه.
إلا أنه لابد أن تعي الإدارة الأميركية الجديدة أن الظروف الدولية والإقليمية المحيطة بالقضية السورية قد تغيرت، ومن مصلحة الولايات المتحدة أن تشارك في اتخاذ القرارات المعلقة لإيجاد مخرج سياسي ينهي آلام السوريين ويعيد لهم حقوقهم المفقودة. ولأسباب تخدم الإنسانية ومصالح اميريكا.
فعلى مستوى الرأي العام الأميركي هنا، والذي يؤثر بشكل قوي على مراكز اتخاذ القرار في واشنطن، فقد بدت سوريا للجميع مثل “عش الدبابير” والاقتراب منه أو النبش فيه سيلحق بالمصالح الأميركية أذى كبيراً.
وعلى الرغم من الطبيعة السلمي الأولية بالغ النظام في رد فعله بشكل صارخ، وتحوّل الاحتجاج السلمي إلى تمرّد عسكري بشكل مفهوم للجميع. العنف المبالغ من النظام تجاه المدنيين استقطب بدوره قوى خارجية وتمويلاً متعدد المصادر والأهداف، ما أدى إلى اقتراف فظائع تجاوزت كل ما يمكن تصوره من تجاوزات وارتكابات وحشية بحق الشعب السوري والإنسانية تخضع حالياً للتحقيق كجرائم حرب ارتكبت على الجانبين، إلا أن للنظام السوري في دمشق النصيب الأكبر منها.
رسمت الإدارة الأميركية الخطوط الحمر الشهيرة وتفضل الرئيس أوباما بتحذير النظام السوري من تجاوزه ثم تجاهلها بشكل غامض، ما أدى إلى تضاؤل نفوذ الولايات المتحدة بل وغياب مصداقياتها على مستوى أصحاب النفوذ على الأرض السورية من جهة وعلى المستوى الشعبي السوري والعالمي من جهة أخرى.
تدخلت روسيا عسكرياً في أيلول العام 2015 ودعمت نظام دمشق بكامل عديدها وعتادها لإخراجه من عزلته، ولم تفعل الولايات المتحدة شيئاً لثني موسكو عن بسط هيمنتها على المناطق التي تقع تحت سيطرته. كما عملت إيران لأغراض طائفية بحتة على دعم النظام في حملته لقمع الشعب السوري الثائر، في حين قدمت تركيا المساعدة للثوار خشية التدفق الهائل لمزيد من اللاجئين على حدودها.
لم يترك المسؤولون الأميركيون مناسبة إلا وعبروا فيها عن أسفهم لمحنة سوريا التاريخية ومصير الملايين من النازحين وعشرات الآلاف من المعتقلين والمغيبين قسراً، ولكنهم كانوا يفتقرون باستمرار إلى حل واضح. فقد سمحت الولايات المتحدة عن قصد أو غير قصد لمعاناة الشعب السوري أن تستمر، وأصبح من مصلحة الجميع الآن، وخاصة الولايات المتحدة، أن يتم إغلاق هذا الفصل من التاريخ، وهذا الأمر من الممكن أن يحدث بقرار روسي جريء تباركه واشنطن وترعى تنفيذه.
فلا بد من الاعتراف أن لروسيا موطئ قدم في المنطقة بلا مناوئ، بينما يمكن أن تحقق الولايات المتحدة مكاسب من خلال عمليات إعادة الإعمار ستبلغ قيمتها مليارات الدولارات حسب التقديرات الأولية، كما أن التدخل الفاعل لواشنطن في هذه المرحلة سيمكنها أيضاً من تصحيح خطأ تاريخي وقعت به في سوريا واستعادة مكانتها كمصدر عالمي رائد للقيم الإنسانية.
من الفوائد الأخرى التي قد تكون أكثر أهمية للتنسيق بين الولايات المتحدة وروسيا في سوريا، أن هذا التنسيق يمكنه أن يكون مؤشر توافق أميريكي- روسي في أماكن أخرى من العالم تتنافس الدولتان العظمتان فيها.
لا يمكن لأي طرف أن ينكر أن كلاً من الولايات المتحدة وروسيا بحاجة إلى بعضهما البعض. فالواقعية السياسية تشير إلى أن الرئيس بوتين سيرحّب بتخفيف واشنطن الضغط عليه نتيجة أنشطته في دول الجوار الروسي ولاسيما أوكرانيا، بينما سيستفيد الرئيس بايدن من الدعم الروسي لمساعيه في مواجهة الصين.
إذا لابد من توجه ائتلافي بين موسكو وواشنطن. ولابد أن يبدأ من خلال التنسيق بينهما في القضية العاجلة للمعابر الإنسانية في الشمال السوري والسماح بمرور المساعدات إلى ملايين من النازحين هناك، وأيضاً تأمين عودة اللاجئين بإشراف وتنظيم روسي معسكر، وروسي سياسي ملح لفتح قنوات الاتصال بين عالأطراف المعنية .
هذه الأنشطة لا يمكن أن تكون منتجة وقابلة للاستمرار إلا بإرادة روسية فاعلة وفي ظل رعاية أميركية متواصلة. فمن مصلحة الولايات المتحدة وروسيا أن تنتهي الأزمة في سوريا، وعلى الطرفين تشجيع الحل الذي يقترحه السوريون المتصالحون بما ينتهي إلى وضع نهاية لهذه الأزمة التي طال أمدها، بما يحقق مصالح الجميع.