الاستماع للمقال صوتياً
|
نادرا ما تتصدر أنباء كازاخستان الأخبار. هذا البلد الكبير الذي يغطي ثلاث مناطق زمنية على الخارطة، ويتمتّع بموارد كبيرة من الطاقة واليورانيوم والقمح.
لفترة ما، كانت كازاخستان نموذجا طريفا للدولة الاستبدادية المستقرة. فبعد عقود من الاستبداد السوفياتي، مات خلالها بالمجاعة ما يقارب ربع السكان، وبعد أن كانت أرضها ساحة للتجارب النووية السوفيتية، بدأت كازاخستان تؤسس لهويتها واعتزازها الوطني، بالتمايز عن روسيا، وبدأت تظهر ملامح انفتاح وتنمية ليبرالية، لتنمو فيها نخب لا تزال في طورها الجنيني. لكن هذا الثراء الهائل ترافق بفوارق اجتماعية وتفاوت كبير في مستويات التطور الاجتماعي. كما ترافق بصعود للمشاعر الدينية الإسلامية في تمايز واضح عن المرحلة السوفيتية.
في كازاخستان تتلاقي جملة من المصالح الدولية بصفتها منطقة استثمار أمريكية اوربية بمئات الملايين من الدولارات من جهة، ومنطقة تتوزع فيها الأدوار بين روسيا بغطائها الأمني والصين باستثماراتها الكبيرة.
بشكل تدريجي بدأت الأمور في التدهور. إذ غادر الرئيس نازاربايف البلاد إلى موسكو، تاركا حاشيته المحسوبية ليحل محله الرئيس قاسم جومارت توكاييف، الحديث العهد بالسلطة، والذي يواجه بيروقراطية عسكرية وامنية فاسدة وغير موالية ناهيك عن حكومة ضعيفة لا تزال تدين لنازاربايف. كل ذلك إضافة إلى ركام تاريخي كبير من المطالب والاستياء الاجتماعي.
في هذا المناخ السياسي القلق والغامض، رفعت الحكومة فجأة أسعار المحروقات وسرعان ما انتشرت الاضطرابات الواسعة لتتجاوز قضية المحروقات، إلى أن وصلت إلى عمال حقل تنغيز النفطي. كما استولى متمردون مسلحون على المطارات والمكاتب الحكومية الهامة.
أدت الأحداث إلى رد عنيف من الشرطة، وقطعت السلطات خدمات الإنترنت. وفى المآتا، أشعل المتظاهرون النار في القصر الرئاسي يوم الأربعاء. وليس أدل على مستوى الاضطراب الذي ساد، من تعدد روايات السلطة للأحداث واتهام 30 الف إرهابيا؟ فتارة اتهم أنصار غولاني وتارة اتهمت القاعدة الخ..
من جهته أقال الرئيس الكازاخستاني حكومته وقام بتسريح قادته الأمنيين وأعلن حالة الطوارئ وأمر قواته ب”التصرف بأقصى قدر ممكن من الصرامة”. وحتى يوم الخميس، قال مسؤولون ان عشرات المتظاهرين وضباط الشرطة لقوا مصرعهم. في المقابل طلب الرئيس توكايف تدخل دول معاهدة الأمن الجماعي، بإرسال قواتها. وتم ذلك على عجل.
تسير الأمور في الوقت الحالي في اتجاه أن يكون لموسكو رجل ضعيف مسؤول يدين لها بولاء كبير. وكما كان الأمر بالنسبة لأوكرانيا، لا تقيم روسيا لسيادة كازاخستان وزنا كبيرا. لقد قال بوتين عام 2014 “إن كازاخستان بلد مصطنع أنشأه رئيسه الأول نور سلطان نزارباييف، ويدرك سكانها أهمية العلاقات الوثيقة مع روسيا”. وسواء تجلى ذلك بالاستيلاء على الأراضي كما مثل القرم وأوكرانيا وربما شمال كازاخستان، أو كان ذلك بالتدخل العسكري فإن ذلك يعبر عن تصورات بوتين لمصالح روسيا الامبراطورية. ويبدو أن الرئيس بوتين، الذي عازم على استعادة الهيمنة العسكرية للكرملين في أنحاء الاتحاد السوفييتي السابق، بل تتردد في الصحافة الروسية المطالبات بضم شمال كازاخستان حيث تتركز الأقلية الروسية والتي تشكل 18٪ من السكان. ويعني التدخل الروسي الحالي ان بوتين دعم توكاييف، مخاطرا بالاحتكاك بالصين ٬وكذا رفضه لدوره الثانوي في كازاخستان في حين تجني الصين الأرباح الطائلة في إطار مشاريعها التي طريق الحرير.
وبالمقابل، فإن للصين التي لديها مطالبها في كازاخستان، وتنظر بقلق لهذه المغامرة الروسية، ذلك ان جانبا رئيسيا من الاحداث يعود لأسباب اجتماعية عميقة لا يمكن حلها بمجرد قمع بعض المتطرفين الإسلاميين. عندها سيتدهور موقف موسكو في آسيا الوسطى لأن ذلك قد يحمل مخاطر تفكك كازاخستان وربما غرق الإقليم في اضطرابات طويلة الأمد. في هذه الأحوال لن تقف الصين أمام روسيا مكتوفة الايدي. لم تشكل أعداد القوات الروسية المتدخلة عبء عسكريا على روسيا، إذ قامت بسحبها من القفقاس وأرمينيا والمعسكرات القريبة. وفي حال الفشل في تحقيق الاستقرار، ومع استمرار وجود حوالى 100 ألف جندي على الحدود الاوكرانية، سيكون من الصعب علي بوتين أن يتجاهل إغراء التهام الكعكتين، ولكن هضمهما سيكون صعبا جدا.
بالمقابل لا يمكننا أن نغفل حقائق الوضع الإقليمي المستجد في آسيا الوسطى. فلقد اندلعت في الماضي القريب ثلاث حركات عنيفة في قرغيزستان المجاورة. كما صعد الإسلاميون في أفغانستان، وتنشط القوى الإسلامية في جميع أنحاء آسيا الوسطى. فلعله واقع سياسي مستجد هناك. إذ ترفض بعض أوساط الجيل الناشئ بعد الاستقلال في بيئة أكثر تشبعا بالإسلام، زعماء العصر السوفييتي الأكبر سنا. ويظهر المتظاهرون يؤدون صلاة جماعية في الهواء الطلق، وتلعب الأقلية الايغورية وغيرها من الشعوب التركمانية دورها في صعود الوعي القومي الجديد.
في حين تتمتع الولايات المتحدة باستثمارات وعلاقات حيوية مع كازاخستان، لكنها فقدت مؤخرا الكثير من تأثيرها فهي لا تملك حتى سفيرا فيها الآن. لذلك من الهام جدا ان تتابع مراقبتها للوضع عن كثب، وفي حين لا يخدم ضعف بيان الخارجية الامريكية استعادة التأثير الأمريكي، سيكون من الهام التحذير من الاندفاع نحو الحلول العنيفة والاعتماد على التدخل الخارجي وتجاوز القانون وحقوق الإنسان، وإلا فسنشهد حتما المزيد من النشاط الاحتجاجي الذي لا يخدم مستقبل السلام والأمن في البلاد.