هنيِّة وشُكُرْ، تسديدات نتنياهو في مرمى واشنطن
الاستماع للمقال صوتياً
|
واشنطن – مقال الرأي
خاص البيت الأبيض بالعربية
بقلم نشمي عربي
تشتهر ولاية ويسكونسن في شمال وسط الولايات المتحدة بأنها أهم مُنتِج للأجبان في أميركا، ولو كانت ويسكونسون دولة مستقلة، لكانت رابع أكبر منتج للأجبان في العالم، بما يفسر الطرفة التي يتداولها الأميركيون: (الكذب في واشنطن كالجبنة في ويسكونسن).
تعكس هذه السخرية اللاذعه حرية التعبير عند الأميركيين، وقناعتهم بأن بعض الاستعراضات السياسية العلنية قد لاتعكس بالضرورة السياسات المهمة التي تتم مناقشتها عادةً خلف الأبواب المغلقة، بدون كاميرات، وبدون مصفقين.
بنيامين نتنياهو الذي درس وعاش وعمل في الولايات المتحدة، وحمل جنسيتها يوماً، قد يملك أسباباً أدعى لأن لا تخدعه استعراضات واشنطن الحافلة، وإن كان هو شخصياً نجم آخرها، خلال همروجة استقبال الكونغرس الأميركي له في مبنى الكابيتول في زيارته الأخيرة، خصوصاً وأنه كان في الوقت عينه محور ما واكبها من اجتماعات في أجواء مختلفة تماماً.
عندما أرسل لي صديق في الشرق الأوسط يهتم بمتابعة المشهد السياسي الأميركي، فرغ للتو من مشاهدة استقبال أعضاء الكونغرس لنتنياهو في الكابيتول، قائلاً: (هذا الترحيب والتصفيق الغير مسبوقين يعكسان عدم مبالاة الولايات المتحدة المطلقة بالعالمين العربي والإسلامي)، كان ردي على رسالته: (لعله من الأدق القول أنه يعكس مدى قوة ونفوذ إسرائيل في الكونغرس تحديداً، وانحياز الولايات المتحدة التاريخي والمطلق لإسرائيل عموماً، ولكنه قطعاً لا يعكس موقف واشنطن الصلب والحازم في عدم الانصياع لرغبة نتنياهو الشديدة في توسيع مواجهته في غزة إلى حرب إقليمية موسعه، يرى فيها طوق نجاة له من إخفاقاته، وما أكثرها).
واشنطن التي صفقت وقوفاً لنتنياهو في عرض أوركسترالي مميز بمبنى الكابيتول، والتي لم تتردد في تقديم كل وسائل الدعم له في عمليته العسكرية المنفلتة من كل عقال، رداً على السابع من أكتوبر، هي نفسها واشنطن التي وقفت بحزم ضد رغبته الجامحة في توسيعها إلى حرب إقليمية تشمل المنطقة كلها، لاترى واشنطن فيها عائداً حقيقياً لإسرائيل، بل تتوقف أقصى طموحاتها عند احتمال إطالتها لعمر حكومة نتنياهو التي تعاني من مجموعة مشاكل معقدة.
عندما جاهر الرئيس بايدن بالإعلان على رؤوس الأشهاد بأنه صهيوني، فإن قارئاً بعمق نتنياهو لهذه التصريحات، وضمن سياقاتها الفعلية وتعقيدات العلاقة بين الرجلين، سيدرك فوراً أن رسالة بايدن لنتنياهو كانت: (أنا أكثر إدراكاً منك لمصلحة إسرائيل، وحرصاً عليها، ولست مستعداً للتضحية بأمنها وسلامتها، مقابل طوق نجاة سياسي لك، ربما لن يؤدي مهمته أصلاً)، الخلاصة التي تؤيدها قطاعات واسعة من الإسرائيليين أنفسهم.
بدقة شديدة اختار نتنياهو هذه المرة توقيت زيارته لواشنطن لتكون في أحد أكثر أوقات الانقسام الأميركي حدةً، ليس فقط بين جمهوريين وديمقراطيين، ولكن حتى ضمن الحزبين، وإدارة يفترض أنها دخلت حالة (الوقت المستقطع) بعد انسحاب رئيسها من الترشح لفترة رئاسية ثانية، وكل الجدل الذي رافق ظروف هذا الانسحاب، واستعدادات محمومة لمعركة انتخابية قادمة، كل مايحيط بها يشي بأنها ستكون فاصلة ليس فقط لأنها ستحسم اسم الرئيس للسنوات الأربع القادمة، بل وميزان القوى بين الحزبين في الكونغرس بمجلسيه، نواب وشيوخ، والذي سيحدد مدى نفوذ كل منهما في اللجان الفاعلة فيهما، مثل العلاقات الخارجية والدفاع والميزانية والاستخبارات، للعامين القادمين، وبالتالي مدى قدرة كل منهما على التأثير في سياسات الرئيس الجديد، الذي يمنحه الدستور الأميركي الصلاحيات الأوسع في رسم السياسة الخارجية لإدارته.
في المقلب الجمهوري يأمل نتنياهو أن ترمب الذي لاينتمي عضوياً لهذا الحزب، سيكون بحاجة ماسة لدعم اللوبيات اليهودية الفاعلة، لتزيد من حالة الاصطفاف الجمهوري خلفه، خصوصاً وأن استطلاع صحيفة النيويورك تايمز مؤخراً توصل إلى أن نصف من عملوا في إدارة ترامب السابقة لا يؤيدون ترشحه لرئاسة ثانية، أما في المقلب الديمقراطي فإن حاجة كمالا هاريس لهذا الدعم ستكون مضاعفه، فهي حتى الآن ورغم كل المظاهر التي تؤيد أنها المرشحة الديمقراطية للانتخابات الرئاسية، إلا أن هذا الأمر سيحسمه فعلاً المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي المقرر في 19-22 من الشهر الحالي في شيكاغو، والذي سيحدد رسمياً اسم مرشحه للرئاسة.
لدهشة عارفٍ مهم بأحوال واشنطن المنقسمة فعلاً اليوم، على و حول كل شيء، كانت المفاجأة الغير سارة لنتنياهو، والتي جعلت نشوة استقبال الكونغرس الأسطوري له تتطاير حتى قبل أن تغادر عجلات طائرته مدرج قاعدة أندروس الجوية في ولاية ماريلاند قرب العاصمة واشنطن، ففي لقاءاته المنفردة مع كل من دونالد ترمب و كمالا هاريس فوجيء نتنياهو بلغة مختلفة تماماً، كانت آخر ما يتمنى سماعه منهما، خصوصاً في هذا التوقيت الحرج لثلاثتهم.
ماسمعه نتنياهو من ترامب و هاريس ليس سراً في واشنطن، فقد تمثل في دعوتهما الجدية له للقيام بخطوات عملية فورية تكفل تحقيق تقدم ملموس في مفاوضاته مع حماس، التي بدأت برعاية أميركية وازنه لانطلاقتها في الدوحة، تمثلت بمشاركة مدير وكالة المخابرات المركزية “نيكولاس بيرنز”، للوصل إلى مخارج تضمن أمن الإسرائيليين، وعودة المختطفين، مقابل وقف العملية العسكرية الإسرائيلية التي تجاوزت كل الحدود، وبأسرع وقت ممكن، بما أعاده لمربع علاقته ببايدن، ولكن الأنكى من ذلك فيما سمعه نتنياهو من الطرفين كان تمسكهما (كل على حدة) بأن حل الدولتين لايزال هو الوحيد المطروح من قبل أي منهما في حال فوزه.
يدرك نتنياهو واليمين الديني والسياسي معه، أن العودة لموضوع حل الدولتين تعني نهايته السياسية، بعد أن كانوا جميعاً في غاية الامتنان لعملية السابع من أكتوبر، لاعتقادهم أنها أحالت هذا الموضوع الذي رفضوه دوماً لماضٍ أَمِلُوا ألا يعود.
رفض واشنطن الضمني لرغبة نتنياهو في جر المنطقة لحرب إقليمية، غطى عليه حجم دعمها العلني لإسرائيل في عمليتها العسكرية، رغم ذلك لم يَألُ نتنياهو جهداً لتقويض مفاوضات الدوحة، بل و محاولة الالتفاف عليها، عندما حاول استغلالها لضمان التزام قطري-حمساوي بخروج كافة قيادات حماس من قطر، الأمر الذي وافق عليه الطرفان، وربما باشرا الاستعدادات للبدء بتنفيذه، ليأتِ الموقف الأميركي (وحسب تسريبات عالية المصداقية) مفاجئاً للجميع، في رفض خروج حماس من قطر، والذي على مايبدو أن جهات أميركية قَدَّرَت أنه كان باتجاه طهران، التي وافقت بمنتهى الأريحية على استقبال قيادات حماس على أراضيها.
الرفض الأميركي لخروج حماس من قطر يتسق تماماً مع المزاج السياسي والاستخباري الأميركي الذي عَوَّدَنا على أن يُقَرِّبَ أصدقاءه منه، على أن يُقَرِّبَ أعداءه أكثر، على الأقل لضمان بقاءهم ضمن دائرة تمكنه من التعاطي معهم بالشكل الذي قد تضطره الظروف له، في نفس الوقت الذي يعي فيه خطورة أبعاد احتواء إيران لحماس فعلياً على المنطقة برمتها، بعد أن احتوت قرارها السياسي والعسكري، الأمر الذي اختار نتنياهو إهماله بالمطلق، يقف وراء ذلك في تقديري أمرين متداخلين: الأول هو إيمانه بأن وجود قيادات حماس في طهران سيزيد في حالة التناقض بين حماس ومحيطها العربي و (السني)، وكذلك حالة العداء بين إيران والمحيط نفسه، أمَّا ما قد يشكله ذلك من خطر على إسرائيل والمنطقة، فإن ذلك يصب في صلب تمنيات نتنياهو الذي يعلم الإسرائيليون قبل غيرهم أن غالب سياساته تتمحور أساساً حول شخصه وطموحه السياسي، لا أمن إسرائيل وسلامتها.
بعيداً عن استقبال استعراضي مبالغ فيه، وغير قابل للصرف في تل أبيب، غادر نتنياهو واشنطن لايحمل معه سوى خيبته مما سمعه من بايدن وهاريس وترامب، وتصميماً على فعل كل مايستطيع للدفع نحو واقع مختلف في المنطقة يجعل من الصعب على حليفه الأميركي التمسك بموقفه الرافض للتصعيد، وإذا كانت كل محاولاته مع الحلفاء لم تفلح في ذلك، فلماذا لا يحاول مع الطرف الآخر، إيران تحديداً، لحصرها في زاوية تفرض على طهران أن تكون هي من يدفع نحو التصعيد؟ مباشرةً أو من خلال أذرعها الإقليمية؟ بعدما كانت قد نجحت تماماً في كل اختبارات ضبط النفس، وأثبتت لواشنطن أنها خصم يمكن الركون إلى تعقله وانضباطه؟
كان واضحاً لنتنياهو أنه هذه المرة بحاجة لحدث مختلف ومتميز يكون من الصعب جداً على إيران أن تتجاوزه دون رد وازن ربما ينجح في إعادة المنطقة لحافة الهاوية، ويفرض على حليفه الأميركي العنيد تغييراً دراماتيكياً في مواقفه، في هذا المفصل تماماً جاء قرار نتنياهو بتصفية كل من “شُكُر” في بيروت، و “هنية” في طهران.
كان طبيعياً أن يثير توقيت العملية والمدى الذي ذهبت إليه تساؤلات صحفي إسرائيلي مخضرم بحجم “ألون بن كاس” عمل مستشاراً في العلاقات الدولية لرئيسي حكومة ووزيري خارجية إسرائيليين، وقنصلاً عاماً لإسرائيل في نيويورك، في مقالته في صحيفة “هاآرتس” الإسرائيلية الخميس الماضي، الذي يقول فيه بكل وضوح:
(يتعين على المرء أن يتساءل لماذا اختار نتنياهو الآن اغتيال زعيم حماس إسماعيل هنية في طهران، في خضم محادثات احتجاز الرهائن الحساسة؟) !!.
ليأتِ الجواب في مقالة “توماس فريدمان” في صحيفة “نيويورك تايمز” في اليوم نفسه:
(هل كان ذلك لمجرد أن ذلك ممكن وأن يد هنية ملطخة بالكثير من الدماء الإسرائيلية؟ أم أن إسرائيل تستفز عمداً بقصد التصعيد، على أمل أن يؤدي الصراع مع إيران إلى جر الولايات المتحدة إليه؟ مما يزيد من إبعاد رئيس الوزراء نتنياهو عن تحمل مسؤولياته عن كارثة 7 أكتوبر التي لم يُحاسب عليها حتى يومنا هذا؟)! ..
السؤال المفصلي الآن هو: هل ستنجح خطة نتنياهو في دفع إيران للخروج عن انضباطها في إدارة حالة صراع حقيقي ولكنها استطاعت حتى الآن مجاراة خصمها الأميركي في الإمساك بحدوده بدقة متناهية؟ أم أن المنطقة مقبلة فعلاً نحو مواجهة يحتاجها نتنياهو بشدة؟ وعليه فهل تحريك القطعات البحرية الأميركية في المنطقة هو جزء من الاستعداد لمواجهة؟ أم لمحاولة وضع حدود وضوابط لها؟
مهما حملت قوادم الأيام (وربما الساعات) من أجوبة، إلا أن الحقيقة التي تدركها واشنطن بوضوح هو أنها مع أصدقاء مثل نتنياهو، فهي ليست بحاجة للبحث عن أعداء.
ربما هي نفس الحقيقة التي يجب أن يدركها كل (حلفاء) إيران في المنطقة.