وَجَعُ الكتابة من غرناطة
الاستماع للمقال صوتياً
|
غرناطة – وايتهاوس
نشمي عربي يكتب من غرناطة الأندلس
قصتي مع الكتابة بدأت منذ أيام المدرسة، ولعل غرامي بالعربية كان دافعها الرئيس، فاللغة لم تكن عندي يوماً وسيلة تواصلٍ فقط، بل هي وعاء حضاري ثري وثمين لكل ما يميز شخصية العربي، وخلال رحلة اغتراب طوعي تجاوزت الثلاثين عاماً، حاولت جهدي أن أحافظ على لغتي الجميلة، فحفِظتها وحَفِظَتني، وبادلَتْني حباً بحب، فكانت وسيلتي الأجمل والأجدى لصوغ أفكاري والتعبير عما يعتمل في نفسي، وكانت دوماً (رغم قواعدها الرصينة) صديقةً مطواعةً، أفهمها وتفهمني، وتعطيني أكثر مما أطمح إليه في أية علاقة، … إلا في غرناطة، ففي غرناطة تقودني اللغة، كما تقود امرأةً مكتملة النضج عشيقاً وَلِهاً وصباً مستهام، بشروطها هي، وطُرُقِها هيَّ.
في غرناطة تتمرد حروف اللغة عليَّ، وتأخذ هي زمام المبادرة، وتفرض ظروف الحب وشروطه، وفي غرناطة تأبى أحرف اللغة إلا أن تكون أكثر فتنةً وألقاً، وطغياناً أنثوياً رائعاً، كوجوه الغرناطيات الحسناوات.
في غرناطة تأبى الأَلِفُ إلا أن تكون أقحوانةً، والعين عطراً، والنون نافورةً، والياء ياسمينةً، والفاء فسقيةً، والراء روضةً.
للكتابة من غرناطة رحيقها، وعبقها، … ووجعها،
وجع يعود إلى عام 1492، تاريخ خروج آخر أمراء بني الأحمر من الأندلس، بعد أن وقع صك التنازل المهين لفيرناندو وإيزابيلا.
كل دروب الياسمين والعطر والهوى تؤدي إلى غرناطة، وكل دروب غرناطة تؤدي إلى دمشق، وكل دروب دمشق عنوانها بني أمية، فمنها شُدَّت الرحال، وأُسرِجَت خيول الرجال، والهوى كان وسيبقى عربياً أموياً قرشياً، و (لاغالب إلا الله) ستبقى محفورةً في الوجدان، كما على جدران قصر الحمراء.
وجع الكتابة من غرناطة مرٌ بطعم العلقم، ووجع “ساروجة” التي تحترق في زمن “ابن العلقمي” أشدُّ مرارةً، وأقسى وجعاً، وبين وجع الأمس وأوجاع اليوم، تَفَرَّقَ سراة بني أمية في مهاجرهم اللاطوعية، كما يتفرق العطر من ياسمين الشام العراتلي.
لافرق عندي أن يكون الحريق في “ساروجة” التي قضيت فيها سنين طفولتي وشبابي المبكر، أو “مشقيتا” في ريف “اللاذقية”، فسورية كلها بلدي، وأي حريق يطال حبة رملٍ واحدةٍ فيها، يسري لهيبه في جسدي، ولأنني أكتب اليوم من “غرناطة” فأنا أدرك تماماً حرقةَ استلاب الوطن والموطن، واغتيال التاريخ وإرثه.
أنزل من قصر الحمراء باتجاه نهر “دارو” لأعاود الصعود باتجاه حي “البيازين” ، موطن النخبة العربية من سكان المدينه في الحقبه الأندلسية، وأمر في المنعطفات والزواريب الضيقة التي لايزال يتضوع من شرفاتها عبير الياسمين الدمشقي حتى اليوم، هذه رحلة يقودها القلب، لا العقل، غايتها واضحة ومحددة: قصر “دار الحرَّه” … تلك الأميره العربيه الشامخه التي أخرت سقوط غرناطة، والتي كانت تدفع ابنها، آخر ملوك بني الأحمر، “أبي عبد الله الصغير” للإستماته في الدفاع عن ملك آبائه وأجداده، تلك المرأة التي يحمل لها الإسبان اليوم كل مشاعر الاحترام والتقدير، وحافظوا على منزلها في “البيَّازين” ولم يتعرضوا له، تقديراً لأنفتها وشموخها، وسموه “قصر دار الحرّة”، وهو اليوم أحد أهم المحميات السياحية في غرناطه.
تلك “الحرّة” التي ووريت الثرى في “فاس” بالمغرب، كم كنت أتمنى أن أشاهد حرةَ أخرى من بني جلدتها اسمها “مي سكاف” تؤدي دورها في عملٍ ينصف الحُرَّتَين، ولكن مشيئة الله فوق كل الأماني.
أنزل من “دار الحرّة” باتجاه “القصبة” لأقف عند سبيل ماءٍ يخرج من بطن الجبل، وأمامه بركة حجرية تملؤها مياهه العذبة، قبل أن تعاود رحلتها في أقنيةٍ بديعة تلتف مع الطريق المتجهة نزولاً، لا أستطيع مقاومة إغراء أن أغمر يداي ووجهي ورأسي بالماء البارد لأنفصل عن العالم المحيط بي لأقل من دقيقة، أعادني منها صوت أجش يرطن بالإسبانية بصوت جهوري عنيد، نظرت فرأيت رجلاً سبعينياً ينظر لي بتحدٍ وثبات، ويهدر كأستاذٍ يلقن تلامذته بكلمات سريعه، لم أفهم منها سوى كلمتي (عرب) و (قرطبة)، عندما توقف الرجل عن الكلام، وقد كان كمن أراد أن يقرر أمراً مهماً سواءً فهمه مخاطبه أم لم يفهمه، نظرت حولي حائراً، كمن يستغيث بمن يشرح له ماذا قال الرجل؟ ولماذا يقوله لي؟ حسناء اسبانية على باب دكان قريب شعرت بحيرتي وارتباكي، فنظرت إلي مبتسمة، وقالت بالإنجليزية:
(هو يحاول أن يشرح لك أن هذه السبل المنتشرة في الطرقات هي من صنع العرب الذين عاشوا هنا، وفي قرطبة، وقد جعلوها في كل الطرق، ليستطيع الناس الشرب والوضوء، كانوا يصلون خمس مرات في اليوم).
تمكنت الإسبانية الحسناء ببساطة وعفوية من تفسير ما قاله الرجل لي بعناد وإصرار، وحدي أنا الذي لم أعرف كيف أفسر لابنتي الدموع التي فاضت من عيناي في لحظتها.