شخصيات مؤثِّرة

كوندوليزا رايس ونظرية الحرب الاستباقية

تحرير بسام أبوطوق

الاستماع للمقال صوتياً

 

كوندوليزا رايس هي أول وزيرة للولايات المتحدة تجمع في شخصها صفتي الجندرة والعرق، فهي امرأة ومن أصل أفريقي، ورغم أن مسؤولياتها ومناصبها كمستشارة للأمن القومي الأمريكي  بين عامي 2001 – 2005  ثم وزيرة للخارجية الأمريكية بين 2005 – 2009 لا علاقة لها بجنسها الأنثوي وعرقها الأفريقي، ولكن يلزم الإضاءة على هاتين الصفتين وتأثيرهما على التاريخ الأمريكي، فقد كان لهما دور في تأسيس وتطوير وتعديل الدستور والقوانين والمؤسسات الأمريكية إلى وضعها الحالي.

تاريخ ونضال ذوي الأصل الأفريقي في أمريكا:

يعتبر الأفارقة الأمريكيون مجموعة عرقية من أصول افريقية تعيش في القارة الأمريكية، ويعود أصل معظمهم إلى سكان أفارقة تم استعبادهم واستجلابهم من أفريقيا إلى أمريكا من قبل تجار الرقيق، وذلك للعمل بالسخرة في النشاطات الزراعية والصناعية التي كان المستوطنون البيض يسيرونها في العالم الجديد (وهذا من أسوأ  الآثار الجانبية للنشاط الكولونيالي الاستعماري خلال النصف الثاني من السنوات الألف الماضية). وكان لمساهمة الأمريكان الأفارقة في النشاط الاقتصادي، ثم وعيهم لذاتهم ونضالهم للحصول على الحرية وتأثيرهم الثقافي، دور كبير في تقدم الحقوق المدنية وتطور الدستور الأمريكي وتجلياته  في تأسيس واستقرار المؤسسات الديمقراطية. وتبدى هذا التأثير في رواية كوخ العم توم للكاتبة هارييت فيتشر، ثم المسرحيات التي اقتبست منها،  وكانت اداة حاسمة ضد العبودية، والتي اعترف بأثرها ابراهام لينكولن لدى اجتماعه مع الكاتبة، حيث قال مازحا” (( إذن هذه السيدة الصغيرة هي المسؤولة عن هذه الحرب الكبيرة )).  

 ومن لينكون والحرب الأهلية بين الشمال الغاضب على مظالم العبودية والجنوب المحافظ عليها، الى مارتن لوثر كينغ وحلمه برؤية مستقبل يتعايش فيه السود والبيض بحرية ومساواة وتجانس، إلى صدور قانون الحقوق المدنية 1964، جرت مياه كثيرة في نهر الحياة الأمريكية، و تعمقت أكثر فأكثر معاني  ومباني الديمقراطية الأمريكية  سياسيا واقتصاديا وثقافيا.

 وبقدر ما تسارعت خطوات الأمريكيين الأفارقة نحو الحرية والعدل والمساواة، خلال حقبة ما بعد الحقوق المدنية، بقدر ما تطور المجتمع الأمريكي ومؤسساته، وتعاظم أثره ونفوذه لينتقل من المحلية إلى العالمية، واتخذ مكانته  كنموذج وقائد لجملة المجتمعات الإنسانية. 

حقوق النساء في أمريكا:

في نهاية القرن الثامن عشر،  قام الآباء المؤسسون للولايات المتحدة بصياغة وتصديق النسخة الأولى من دستور الولايات المتحدة الأمريكية، والتي قامت بتحديد المبدأ الأساسي  للأمة الجديدة الذي يتمثل بعمل المواطنين الأمريكيين مع بعضهم لإدارة الحكومة، لكن هذا الأمر قد استغرق حملات متتالية على مدى قرنين من الزمن، لتشمل هذه الحقوق جميع الأمريكيين رجالا ونساء.

بداية تاريخ الحركة التحررية للمرأة كانت باجتماع صغير لحقوق التصويت، وبعدها انطلقت باتجاه المساواة في جميع المجالات في المجتمع. ويعرف مؤتمر سينيكا فولز عام 1948 بأنه التجمع الأول من أجل المطالبة بحقوق المرأة في الولايات المتحدة. وقد قامت إليزابيث كادي ستانتون بالمساعدة في تنظيم هذا المؤتمر في ولاية نيويورك، ما شكل بذرة الطموح الانتخابي التي نمت لتعطي بعد عقود من العمل الثمار المرجوة على يد الدعاة البارزين في حقوق المرأة، و نتج عنه قيام  100 شخص من رجال ونساء بالتوقيع على وثيقة لحق المساواة،  كانت أشبه بإعلان الاستقلال ، وقد أكدت على المساواة بين الجنسين، وعلى حق جميع الناس بالتصرف بحرية، وسعيهم الدائم نحو السعادة. 

عام 1869 صدر القانون الأول في حق المرأة بالتصويت في الولايات المتحدة، وبذلك كانت أول دولة في العالم تمنح المرأة فيها حق التصويت بجميع الانتخابات، وتم ذلك فعليا عام 1890 ولكن لم يتم التصديق على كافة تعديلات هذا القانون حتى عام 1920. كما صدر قانون معايير العمل العادلة بتحديد الحد الأدنى للأجور الفيدرالية في وقت لاحق لغض النظر عن جنس العامل عام 1928،  ثم تم تمرير قانون المساواة في الأجور، بفرض أجور عادلة لنفس العمل عام 1963.

أما بالنسبة لإستقلالية المرأة في موضوع تنظيم الأسرة، فقد قامت مارجريت سانجر بتحديد قوانين مكافحة منع الحمل في ولاية نيويورك بداية القرن العشرين، وفي العام 1918 فازت وحلفاؤها بالدعوى القضائية، الأمر الذي سمح للأطباء بتقديم مشورتهم للأشخاص المتزوجين فيما يخص وسائل منع الحمل.

لا علاقة لكونداليزا رايس بهذا الحراك وهذا التطور لحقوق المرأة وذوي الأصل الأفريقي، ولكن .. لولا حصول النساء والأفارقة الأميركان على حقوقهم ومكانتهم في المجتمع الأميركي، ولولا تحول شعارات العدل والمساواة إلى واقع قائم وقانوني، لما ظهرت كوندوليزا رايس، ولما وصلت إلى منصب مستشارة الأمن القومي ثم وزيرة الخارجية الأمريكية في مرحلة حرجة تحتاج إلى قائد للسياسة الخارجية مؤثر وفعال لديه برنامج واضح المعالم,

من هي كوندوليزا رايس؟ حياتها ونشاطها وأفكارها؟

ولدت رايس عام 1954 في برمنغهام بولاية ألاباما، حصلت على بكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة دنفر عام  1974 ثم الماجستير من جامعة نوتردام عام  1975 والدكتوراه من جامعة دنفر عام 1981. 

شاركت في زمالة مجلس العلاقات الخارجية عام 1987 الذي سمح لها بالعمل مع رؤوساء الأركان المشتركة في مجال التخطيط الإستراتيجي النووي. من العام 1989 إلى 1991 (وهي فترة تفكك الإتحاد السوفييتي وإعادة توحيد ألمانيا ) عملت مديرة في إدارة بوش الأب، ثم أصبحت في منصب كبير مستشاري الأمن القومي للرئيس بوش الإبن، والذي يرتكز على إحاطة الرئيس علما بالمسائل الأمنية على الصعيدين الداخلي والخارجي والمناخ السياسي للدول المعادية وغير المستقرة .وفي 27 يناير 2005 عينت وزيرة لخارجية الولايات المتحدة خلفا للجنرال كولن باول الذي قدم استقالته.

تقلدت رايس مناصبها الإدارية في العلاقات الخارجية والأمن القومي في عصر تفكك الاتحاد السوفيتي، ولهذا تفصيل.. فقد كان للانفجار الكبير في الكتلة السوفيتية تداعيات تاريخية عالمية لا تتكرر إلا كل حقبة من مئات السنين، وقد هزت العالم من شرقه الى غربه ومن شماله إلى جنوبه وأدت الى دومينو من الأحداث المتعاقبة، فمن ثورات أوروبا الشرقية عام 1989، إلى انفصال دول أوروبا الشرقية عن المعسكر السوفييتي، وتوحيد الألمانيتين، إلى الانسحابات السوفييتية المباشرة وغير المباشرة أو عبر تسويات سياسية لنقاط التوتر بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، في مختلف أنحاء العالم، في أفغانستان وأنجولا وناميبيا وأثيوبيا واليمن الجنوبي والتوصل إلى  وقف الحرب العراقية الإيرانية .. إلخ. وأخيرا وفي العام 1990تفكك الإتحاد السوفييتي نفسه وحل حلف وارسو و الكوميكون (مجلس المساعدة الاقتصادية المتبادلة)

في هذا الزمن المضطرب قادت رايس السياسة الخارجية الأمريكية بأدوات ديبلوماسية تحويلية موجهة نحو توسيع عدد الحكومات الديمقراطية المسؤولة في العالم  وخاصة” في الشرق الاوسط الكبير.

نحن الآن في عام 2022 بعد مرور أكثر من عقدين على هذه الأحداث، نعرف ما حل بالعراق ومنطقة الشرق الأوسط بسبب مشروع الفوضى الخلاقة التي بشرت به رايس، وكيف تحول تطبيق المؤسسات الديمقراطية (على الطريقة الأمريكية) من أمل أفضل للبشرية إلى فشل وخراب واستبداد متجدد بمؤسسات طائفية وإقليمية. وبدلاً من أن تستعيد النخب البرجوازية والتكنوقراطية حاملةُ  التقدم والحداثة والعصرنة  لواء القيادة والحكم لتعيد مجتمعاتها المتراجعة والممزقة إلى واجهة التاريخ من جديد، أتاحت السياسة الخارجية الأمريكية المتخبطة المجال للتيارات الشعبوية والظلامية والرجعية لتتصدر وتسيطر على الملعب. 

استخرجت رايس الأكاديمية نظرية الحرب الاستباقية من بطون الدراسات والأبحاث، أطلقتها للتطبيق، كما يفتح المغامر  الطائش صندوق باندورا، ويحرر الشرور والشياطين والأشباح غير مدرك بما جنت يداه .كولن باول أبدى ندمه على تبنيه لتقرير عن أسلحة الدمار الشامل في العراق، وهو يعلم في قرارة نفسه كعسكريٍ خبير بقلة المعلومات والتضليل الناتج عنها، ولكن رايس اقتحمت ما ارتبك أمامه الجنرال باول.

  

  

زر الذهاب إلى الأعلى